حداثة و ديمقراطيةمنوعات

تشارلس تايلور: هيرمنيوطيقا العلمنة والاعتراف والليبرالي

والتاريخية، وفي التفاعل مع التقاليد الأخلاقية والدينية. يتمثل الهدف السياسي المركزي لمشروع تايلور ما بعد الهيجلي في التخفيف من الأشكال الحديثة من الاغتراب وبناء ديمقراطية نابضة بالحياة وشاملة لكل المجتمع من خلال الدعوة إلى الليبرالية المضيافة لتعددية الخيارات الروحية والدينية في التفاعل والتواصل المتبادل.طور تايلور ليبراليته البديلة على مرحلتين كإجابة تفسيرية عن الصراعات العملية والمتعلقة بالتغيرات المهمة في السياق الفكري/ السياسي. أولاً، طورعمله المبكر، الذي بلغ ذروته مع “مصادر الذات”: صنع الهوية الحديثة (1989) و”سياسة الاعتراف” (1994)، ليبرالية تراعي المجتمع وتؤكد على أهمية الصالح العام والوطنية، من ناحية، و”سياسة الاعتراف” بالجماعات وحقوقها من ناحية أخرى. وبهذه الطريقة،ي قدم تايلور حلًا للنزاعات الناتجة عن طلب الاعتراف، ويأخذ اقليم الكيبيك في كندا كمجتمع وطني متميز يسعى لتحقيق مصلحته كمثال على ذلك. ويهدف هذا الحل الذي قدمه تايلور كما في هذا المثال إلى شكل من أشكال المصالحة يتجنب إجابتين متعارضتين: إما انفصال كيبيك أو مجتمع كندي غير حساس لخصوصية كيبيك. طور تايلور في مرحلة ثانية بدأت في منتصف التسعينيات وبلغت ذروتها مع كتاب “عصر علماني” (2007) ليبرالية التوفيق والمصالحة كإجابة عن سياق يتميز بالصراعات المتعلقة بالدين في كندا والديمقراطيات الغربية الأخرى ويركز على إضفاء الطابع الفردي على الحياة الروحية والدينية.سوف نتعامل في ما يلي مع مرحلتين من ليبرالية تايلور (1-2) مع الأخذ في الاعتبار ثلاث مستويات مختلفة لمقاربته الشاملة للقضايا الأنطولوجية- السياسية والاجتماعية- التاريخية. يحدد تايلور في الفترة المبكرة من أعماله العناصر الأساسية لنهجه تجاه الدين والديمقراطية وأن لم يكن الدين قضية مركزية في المرحلة. يضع تايلور في المستوى الأول من مقاربته الشاملة الخطوط العريضة لأنطولوجيا الأخلاق التي يكون فيها البشر “حيوانات ذاتية التفسير”-كما يطلق عليه- حيث تُبنى هوية كل فرد بشكل حواري مع الآخرين في المجتمع. يتسم تكوين الهوية بالتوجه نحو الخير القائم على تقييمات قوية؛ويتميز تكوينها في عمله اللاحق الذي يلعب فيه الدين دورًا رئيسيًا أيضًا بالحاجة الحيوية لتجارب الامتلاء والتعالي. يقدم تايلور في المستوى الثاني من مقاربته تفسيرًا لظهور العلمانية في الغرب فيرى أنها: لا تظهر كنتيجة للانحدار التدريجي للدين ولكن للتحول التاريخي الذي يلعب فيه الدين دورًا مهمًا. يعالج تايلور في المستوى الثالث، المسائل القانونية والسياسية المتعلقة بمعنى العلمانية في الغرب، وأسباب منح الاعتراف والتوافق مع المعتقدات الدينية. تتمحور الليبرالية الهيرمينوطيقية (التاويلية) لتايلور على الاعتراف بالأختلاف الديني وتكييفه المعقول.

سوف ندرس العواقب القانونية والسياسية لليبرالية الشاملة لتايلور مع التركيز على الدين. وسنقوم بتحليل تكيفه بشكل نقدي من خلال مقارنته بالموقف الليبرالي الحيادي المؤثر الرافض عمومًا للتكيف الديني.

1 عمل تايلور المبكر: من الأنطولوجيا الأخلاقية إلى الليبرالية الحساسة للمجتمعتركزهيرمينوطيقيا (التأويل) تايلور على الحداثة، ومبنية على سياق أنطولوجي أخلاقي مستقل أو أنثروبولوجيا فلسفية.إن انطولوجيا تايلور شاملة بطبيعتها، أيً تتميز بفهم الأجزاء بوصفها مترابطة بشكل وثيق وقابلة للتفسير بالرجوع إلى الكل فقط. وقد تم تطويرها في مجموعة متنوعة من الأعمال منذ السبعينيات حتى منتصف التسعينيات، بما في ذلك عمله الأكثر طموحًا مصادر الذات (1989)؛ وهو مزيج من التحليل المتعالي للهوية وإعادة بناء المراحل التاريخية لتشكيل الهوية الحديثة لدعم تفكيره في السياسة.ا- الأنطولوجيا الأخلاقية: تكوين الهوية، والتقييمات القوية، والخيرترتبط الأنطولوجيا الأخلاقية، بالنسبة لتايلور، ارتباطًا وثيقًا بالطريقة التي نتفلسف بها حول السياسة. يرى بأن موقف المرء من القضايا الأنطولوجية لا يحدد موقفًه بشأن قضايا سياسية معينة. و”يمكن الجمع بين أي من موقفين في النقاش حول الذرية أو الكلية( الشمولية) مع أي موقفين بشأن مسألة الجماعي – الفردي” والانقسام الليبرالي / غير الليبرالي. لكنه يلفت الانتباه الى طريقة وصول القضايا أنطولوجية الصحيحة إلى المسائل الحيوية التي يتم تجاهلها من قبل الليبرالية الإجرائية والذرية السائدة. فغالبًا ما يمكن إرجاع الميل الليبرالي لتقليل أهمية الجماعة والخير العام إلى مفاهيم أنطولوجية مسبقة؛ وهذا ميل يعكس نزعة فردية للحداثة الغربية توهن وتقطع المجتمع السياسي من الداخل. تُعالج مشاكل الهوية والسياسة بشكل أكثر ملاءمة من خلال البناء على الأنطولوجيا الحوارية التي تأخذ في الاعتبار الأهمية الحيوية للمجتمع، والاعتراف المتبادل والتواصل لتشكيل الهوية. تحدد الهوية ” فهم الشخص لنفسه مَنْ يكون، وخصائصه الأساس المُعينه له كإنسان”. لا تشير كلمة “حواري” إلى تبادل الحجج المجردة ( كما طرحها هابرماس)، بل إلى عمليات مجسدة للتفاعل التواصلي والاعتراف. غالبًا ما يتم التوسط في هذه العمليات من خلال اللغة، وأحيانًا من خلال المحاججة. اننا “نعبر/ ونشكل علاقات مختلفة قد نقف فيها مع بعضنا البعض في: حميمة، رسمية وظيفية، عفوية، مزاح، جديًة، وما إلى ذلك” من خلال الانخراط في العلاقات الحوارية كأعضاء في المجتمع. تُبنى هذه الأشكال الشائعة من التواصل على الحاجة الحيوية للأعتراف من الآخرين – أفراد الأسرة والأصدقاء والعشاق والمواطنين. حتى النساك الذين يبدو أنهم يتخلون عن الحاجة إلى الاعتراف هم في علاقة حوارية مع الله وكذلك في حوار داخلي دائم مع أنفسهم.

تتضمن عملية تشكيل الهوية التوجه نحو الخير؛ يقوم هذا التوجه على التمييز بين القيم العليًا / الدنيًا والأفضل / الأسوأ. فبالنسبة الى تايلور، “جزء حيوي من معرفة من أنا هو معرفة موقفي”. ويشير إلى هذه الفروق على أنها تقييمات قوية؛ تتجاوز نطاق التفضيلات الفردية ولا يمكن تفسيرها على أنها مجرد تعبير عن الرغبات الشخصية. التقييمات القوية هي تمثيل للتقييمات من الدرجة الثانية التي تعطي مضمون لمفاهيم الخير: نختبر رغباتنا وأغراضنا بوصفها تمييز أو اختيار نوعي، مثل أعلى أو أدنى، نبيل أو أساسي، موحدة أو مجزأة، مهمة أو تافه، جيدة أوسيئة. وهذا يعني أننا نختبر بعض رغباتنا وأهدافنا باعتبارها أكثر أهمية وجوهرية من غيرها.

ترتبط مفاهيم الخير هذه بالتمييز بين نوعين من ردود الفعل البشرية، أي الطبيعي والأخلاقي: فالغثيان، على سبيل المثال، هو رد فعل سلبي مباشر لشيء مثير للاشمئزاز؛ على العكس من ذلك، يتم التوسط في رد الفعل الأخلاقي من خلال مفردات تفسيرية أو إطار أخلاقي يشكل تجربتنا ويرتب قيمنا. إن هذه الأطر ضرورية لما يعنيه أن تكون إنسانًا، وغير قابلة للاختزال في ردود الفعل العادية أو الطبيعية. مثلما نحتاج إلى إحداثيات لإيجاد طريقنا في الفضاء المادي، نحتاج إلى إحداثيات لإيجاد توجهنا في “فضاء من الأسئلة”، وأكثر من ذلك ، لبناء سرد حدثي متماسك لحياتنا: “لأننا لا نستطيع إلا نوجه أنفسنا نحو الخير، ومن ثم نحدد مكاننا بالنسبة إليه، وبالتالي نحدد اتجاه حياتنا، فلا مفر من فهم حياتنا في شكل قصصي سردي، على أنه “بحث وتقصي”. ترتبط أطر الهوية والذات الفاعلة والقيم بعلاقة ضمنية؛ فنحن نعمل من خلال “مفردات لغة أخلاقية، ونبني حكاية للتواصل مع الآخرين”؛ وهذه “متطلبات بنيوية لا مفر منها للفاعلية البشرية”.

ترتبط مفاهيم الخير هذه بالتمييز بين نوعين من ردود الفعل البشرية، أي الطبيعي والأخلاقي: فالغثيان، على سبيل المثال، هو رد فعل سلبي مباشر لشيء مثير للاشمئزاز؛ على العكس من ذلك، يتم التوسط في رد الفعل الأخلاقي من خلال مفردات تفسيرية أو إطار أخلاقي يشكل تجربتنا ويرتب قيمنا. إن هذه الأطر ضرورية لما يعنيه أن تكون إنسانًا، وغير قابلة للاختزال في ردود الفعل العادية أو الطبيعية. مثلما نحتاج إلى إحداثيات لإيجاد طريقنا في الفضاء المادي، نحتاج إلى إحداثيات لإيجاد توجهنا في “فضاء من الأسئلة”،وأكثر من ذلك ، لبناء سرد حدثي متماسك لحياتنا: “لأننا لا نستطيع إلا نوجه أنفسنا نحو الخير، ومن ثم نحدد مكاننا بالنسبة إليه، وبالتالي نحدد اتجاه حياتنا، فلا مفر من فهم حياتنا في شكل قصصي سردي، على أنه “بحث وتقصي”. ترتبط أطر الهوية والذات الفاعلة والقيم بعلاقة ضمنية؛ فنحن نعمل من خلال “مفردات لغة أخلاقية، ونبني حكاية للتواصل مع الآخرين”؛ وهذه “متطلبات بنيوية لا مفر منها للفاعلية البشرية”.

لا يمكن اختزال تكوين الهوية في الأنطولوجيا الحوارية لتايلور إلى مجرد مجموعة من الاختيارات الطوعية أو التفضيلات الذاتية (“أريد أن أذهب إلى السوق”؛ “أنا أفضل الفانيليا على آيس كريم الشوكولاتة”). نحن نعتمد باستمرار على مجموعات محددة من التقييمات القوية ( إسلامية، بوذية، مسيحية، ماركسية) التي نرثها ونستوعبها كأعضاء في المجتمع. ليست هذه المجموعات من التقييمات جميعها ثايته؛ يمكننا تغيير الأطر بوصفنا كائنات قادرة على التفسير، ومع ذلك فإن ابتكاراتها لا معنى لها إلا فيما يتعلق بالمفردات والممارسات الموجودة والمعارضة لها ايضًا. لا يُقصد من حجة الأهمية الحيوية للأطر مجرد حقيقة نفسية طارئة عن البشر. ولكن القصد هو الادعاء بأن العيش ضمن هذه الآفاق المؤهلة هو أحد مكونات الذات البشرية، وأن الخروج من هذه الحدود سيكون بمثابة الخروج عما نعتبره جزءًا لا يتجزأ من الشخصية السليمة.

الليبرالية المراعية للمجتمع وسياسة الاعتراف

تُعد الأنطولوجيا الحوارية أرضية دفاع تايلورعن الأهمية الحيوية للاعتراف ومطالب الهوية والخير العام. يقدم مفهوم تايلور إجابة ومبررًا للعدد المتزايد من المطالبات بالاعتراف من قبل جماعات مختلفة (قومية ودينية وجنسية، إلخ)؛ وهذه الأرضية وثيقة ذات صلة بالهوية والاعتراف والخير لما بينهم من أرتباط. لا تعود اهمية هذا الأرتباط الى مسألة تشكيل هوية المرء فقط؛ ولكن الى مسألة العدالة أيضًا.

نظرًا لأن الهوية تتشكل جزئيًا من خلال الاعتراف أو غيابه، وغالبًا ما يكون ذلك بسبب سوء التعرف على الآخرين، وبالتالي يمكن أن يعاني شخص أو مجموعة من الأشخاص من ضرر حقيقي، أو تشويه حقيقي، إذا كان يعكس عليهم الناس الآخرين أو المجتمع الذي من حولهم صورة مهينة أو مزرية عن أنفسهم. يمكن أن يؤدي عدم الاعتراف نتيجة لسوء التعرف إلى إلحاق الأذى بالأشخاص، ويمكن أن يكون شكلاً من أشكال اضطهادهم، وسجنهم في وضع زائف ومشوه ومختزل.

إن إنعام النظر في عدم الاعتراف مهم من الناحية المعيارية لأنه يمكن أن يسبب “جرحًا مؤلمًا يثقل كاهل ضحاياه بكراهية ذاتية مدمرة”. ويترتب على ذلك أن مجرد التسامح مع أولئك الذين يدعون الاعتراف لا يكفي لتجنب إلحاق الضرر؛ فالاعتراف الواجب أن يكون اعترافًا إيجابيًا بمطالب الهوية الأساسية “ليس مجرد مجاملة ندين بها للناس. إنها حاجة إنسانية حيوية”.

يدعم تايلور حجته من أجل الاعتراف عن طريق التفكير التاريخي أيضًا. إن أسباب الاعتراف أكثر إلحاحًا اليوم بسبب الانتقال التاريخي من مجتمع هرمي تقليدي إلى مجتمع ديمقراطي. يتم تحديد الهوية، في المجتمع الهرمي، من خلال الوضع الاجتماعي. ويفسح ضعف هرمية المجتمع المجال للكرامة ومُثل الأصالة – أي أن يعيش الشخص حياته بطريقته ويمكنه أن يكون صادق مع نفسه دون اتباع نموذج خارجي مفروض لتحقيق الحرية. تعتمد الهوية الفردية في كل من المجتمعات التقليدية والديمقراطية على الاعتراف. تم بناء الاعتراف العام في الهوية المشتقة من المجتمع بحكم أنها قائمة على تصنيفات اجتماعية يعتبرها الجميع أمرًا مفروغًا منه. وعلى كل حال، لا تتمتع الهوية الأصيلة بالاعتراف بشكل مسبق، ولكن يجب أن تكتسب.

أدى تطور المجتمع الديمقراطي إلى انقسام بين مطلبين لكسب الاعتراف. جاء الأول مع الانتقال من شرف المكانة إلى الكرامة، فظهر نموذج ليبرالي لسياسة المساواة في الكرامة. وهذه بوصفها “سياسة عامة وذات صلاحية كونية تؤكد على المساواة في الكرامة بين جميع المواطنين، مضمونها المساواة في الحقوق والاستحقاقات”. ونشأ نوع ثان من سياسات الاعتراف عن النوع الأول، وهو سياسة الاختلاف، التي تركز على تفرد الفرد / التفرد الجماعي: هناك أساس عام-عالمي لهذا أيضًا، مما قد يجعل تداخل وألتباس بين الاثنين. قد بكون المطلوب أن يتم التعرف على كل شخص من خلال هويته الخاصة التي يتفرد بها. لكن الاعتراف هنا يعني شيئًا آخر. فما يتم تأسيسه مع سياسات الكرامة المتساوية يُقصد به أن يكون هو نفسه عالميًا، وسلة متطابقة من الحقوق والحصانات؛ أن ما يُطلب منا التعرف عليه مع سياسة الاختلاف، هو الهوية الفريدة لهذا الفرد أوالجماعة، وتميزهم عن أي شخص آخر. إن الفكرة هي هذا التمييز هو بالضبط ما تم تجاهله، أوالتستر عليه، أو استيعابه في هوية مسيطرة أو أغلبية. وهذا الاستيعاب هو الخطيئة الأساسية ضد مبدأ الأصالة.

يتوافق التمييز بين معنيً الاعتراف مع أشكال أو صيغ مختلفة من الليبرالية، يقوم أحدهما على الاعتراف بالاحترام المتساوي حصريًا، ويضيف الآخر اهتمامًا بالاختلاف، الأول هو الليبرالية الإجرائية القائمة على الحقوق. الدولة الليبرالية محايدة تمامًا فيما يتعلق بمفاهيم الخير، ويتمثل دورها في توفير إجراءات عامة تضمن أن يتمتع كل مواطن بالحرية نفسها في متابعة تصوره عن الخير. لقد حارب هذا الشكل من الليبرالية القائمة على الاحترام المتساوي أشكالًا مختلفة من التمييز، إلا أنه كان أعمى عن الطرق التي يختلف بها المواطنون. تنكر وتنفي هذه الليبرالية القائمة على الاحترام المتساوي أختلاف” الهوية من خلال إجبار الناس على قالب متجانس غيرحقيقي بالنسبة لهم”؛ فالادعاء بأن القواعد والمبادئ الليبرالية محايدة هو مجرد انعكاس لثقافة مهيمنة، وانه ” ليس غير إنساني (بسبب قمع الهويات) فقط ولكن أيضًا بطريقة خفية وغير واعية، هو نفسه تمييزي للغاية “.

تتفاعل، في المقابل، سياسات الاختلاف التي دعا إليها تايلور ضد أنواع من التمييز تؤثر، بشكل غير مباشر، على جماعات محددة. لا تظهر صياغة تايلور لهذا الموقف الليبرالي الثاني الحساس للاختلاف والصالح العام كنقد نظري لليبرالية السائدة فقط، ولكن كإجابة عن صراع سياسي ومشكلة عملية تتعلق بالمجتمع الذي يعيش فيه، اي بمقاطعة كيبيك والشعوب الأصلية في كندا أيضًا. فيطبق نظريته على الخلاف الذي ظهر في الثمانينيات مع تبني الميثاق الكندي للحقوق. تتتعلق المسألة- بالنسبة له- بإمكانية التوفيق بين أقرار حقوق متساوية لجميع المواطنين ومطالب التميز التي يطرحها الكيبيكيون والشعوب الأصلية وهي: إلى أي مدى مطالبتهم بالاعتراف وبشرعية الأختلاف متوافقة مع الليبرالية؟ هل مطالب السعي وراء الأهداف الجماعية والمصالح المشتركة متوافقة مع المجتمع الليبرالي؟

يجادل تايلور بأن الحكومات الليبرالية في كيبيك وكندا لا يمكن أن تكون محايدة في عديد قضايا، وعليها أن تدرك أنه لايمكن أختزال أهداف وخيرات جماعية معينة من خلال الإجراءات أو الحقوق الفردية مثل بقاء الجماعة السياسية؛ والحفاظ على التفرد الثقافي واللغوي في كيبيك. إن بقاء وازدهار الثقافة الفرنسية في كيبيك يعد أمرًامهمًا بالنسبة لحكومة كيبيك. ليس المجتمع السياسي محايدًا بين أولئك الذين يقدرون الوفاء وأن يظلوا صادقين لثقافة الأسلاف وأولئك الذين قد يرغبون في الانفصال باسم بعض الأهداف الفردية. لا يتعارض السعي من اجل الأختلاف بواسطة التشريع وصنع السياسات بهدف البقاء والنزاهة والازدهار لجماعة الكيبيك الفرنسي مع الليبرالية.

لكن تعتبر سياسة الاختلاف، بالنسبة لتايلور، شرعية تمامًا فقط عندما يتم احترام الحقوق الأساسية- الحق في الحياة، والحرية، والإجراءات القانونية الواجبة، وحرية التعبير، وممارسة الدين، وما إلى ذلك. هناك حد اساس بين هذه الحقوق كحرية كتابة اللافتات التجارية باللغة التي يختارها الفرد مثلًا. لا يمكن اتباع أيً مفهوم للخير العام بشكل شرعي إذا كان يمس جوهر الحريات والحقوق؛ ومع ذلك، تختلف الحقوق والحريات الأساسية عن “الامتيازات والحصانات ذات الأهمية التي يمكن إلغاؤها أو تقييدها لأسباب تتعلق بالسياسة العامة على الرغم من أن المرء يحتاج إلى سبب قوي للقيام بذلك”.

إن صيغة تايلور الثانية من الليبرالية لها عواقب مهمة تتصل بالدين على مستويين: أولاً، إن سياسة الاعتراف ملائمة في الظاهر لمطالب الأقليات الدينية. ومع ذلك، لم يطور تايلور هذه الفكرة في عمله المبكر. لكنه يدافع عن شرط منح الاعتراف بالتقييمات القوية التي تشكل الهوية شريطة ألا يقوض ذلك الحقوق والحريات الأساسية.

ثانيًا، لا يمكن لدولة أن تتبنى بشكل شرعي تصورًا دينيًا أو مستوحى من الدين للخير العام أوالصالح العام. يتفق تايلور هنا مع راولز ودوركين على أن الدولة التي تدعم مفهوم ديني للخير سيكون لها موقف تمييزي ضد أولئك الذين لا يؤيدون هذا المفهوم. ولكن هناك فرق حاسم بين دعم الدولة لمفهوم ديني للخير ودعم الدولة وولائها لجماعة تاريخية معينة واستمراريتها، أي لمفهوم الخير أو الصالح العام. هناك تمييز قاطع بين الصالح العام (موضوع الوطنية) وخير خاص (ديني أو غير ديني): يجب أن تكون الدولة الليبرالية محايدة تجاه المؤمنين وغير المؤمنين، لكنها لا يمكن أن تكون محايدًا بين الوطنيين والمناهضيين لهم او المعادين للوطنية.

تنطوي الوطنية على أكثر من مجرد الالتقاء حول المبادئ الأخلاقية والدستورية الأساسية، من ناحية، وهي تختلف عن الولاء لمفهوم ديني معين عن الخير من ناحية أخرى. الوطنية هي “حب خاص” ينطوي على “ولاء اجتماعي واسع النطاق لمجتمع تاريخي محدد”، يعتز به المرء ويحافظ عليه كصالح مشترك وهدف مشترك.

أصبحت تعقيدات العلاقة بين الدولة والدين واضحة بشكل متزايد مع التغيير في المناخ السياسي ابتداءً من التسعينيات. طور تايلور، في عمله المتأخر المكرس للدين، أنطولوجياة السابقة وتشخيصه السابق للحداثة ثم طور بالتفصيل نهجا قائمًا على الأعتراف بالدين. وهذا ما سنتناوله لاحقا.

التنويري_موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate