ثقافةحداثة و ديمقراطية

الثقافة والحرب.

لم يتعرض الكثيرون للأبعاد الحاكمة في العلاقة بين الثقافة من حيث هي بنية مركبة من الجوانب الوصفية والأبعاد المعيارية في آن، والحرب من حيث هي فعل مؤقت صادم ليس من الضروري أن تكون خاضعة للتعريف السائد في أدبيات دراستها؛ بأنها “نزاع مسلح تبادلي بين دولتين أو أكثر من الكيانات والتحالفات غير المنسجمة”، فالأولى أي الثقافة هي نتاج تراكم للمعرفة والممارسات الحياتية؛ يعود في جوانب منه لمدى زمنى يمتد في بعض لعبت العلوم الإنسانية بعد رسوخ قدرة أدواتها على الضبط المنهجي دورا مهما في دراسة وتحليل ظاهرة الحرب وفهم دواعيها، فمنذ نشأة الدولة في التاريخ القديم أصبح الجيش أحد أهم مكوناتها حيث أفرزته تحديدا بنية اجتماعية اقتصادية، ومن ثم تتماهى فكرة الحرب في ثقافة موضوعية مكتسبة.تشي قراءة التفاعل التاريخي للحرب بأنها نتاج للذهنية المتكونة ثقافيا، سواء كانت في البنية المستقرة في السلطة السياسية للدولة..

وبالمثل أيضا أدوار قاطنيها الاجتماعية والفكرية المؤثرة، التي قد تكون إحدى تبدياتها الجماعات المسكونة باختلافات في مكونها الثقافي، كما في تشكل جماعات الإرهاب العابرة للدولة القومية والحروب الأهلية.. يترتب على هذا أهمية دراسة البعد الثقافي لفهم العلاقة بين العنف والحرب، دون إيغال في علم النفس التطوري والفرويدي والسلوكي الذين يربطون فعل الحرب بالعنف الفردي والطبيعة العدوانية للإنسان، وفى هذا التصور الذي لا يعتبر المحرك الأساسي لفعل الحرب إغفال لأسبابها الموضوعية على اختلافها، لأنها ظاهرة منظمة مقترنة بقواعد تخص الجيوش ومصالح وأسباب تخص الدول أو الجماعات، مما ينفى اقتصارها على غريزة العدوان.

بحال من الأحوال لا يستطيع الدارس لظاهرة الحرب بناء إطار نظري محكم وشامل للعلاقة بينها وبين الثقافة، لتنوع الآراء التي تقدمها مدارس العلوم الإنسانية على تعددها، والأيديولوجية المتوارية خلفها أحيانا بالأفكار التي تبرر القواعد الأخلاقية لواقعة الحرب، سواء من الدول أو الجماعات التي تحركها انحيازات تمازج ثقافي، يمكن البناء عليه ربما دون اللجوء لرؤية موضوعية متزنة؛ تغلق هذه الانحيازات دائرة التفسير والتبرير على انحراف المفاهيم.

على سبيل المثال لا يتسنى فهم طبيعة حروب الإرهاب لدى الأصوليين بمعزل عن رصد ثقافتهم؛ القائمة على الفرز الذاتي، فيما يتعلق بالمقدس والمدنس، والنفي العقيدي للآخر، وسعيهم لتسييد قناعاتهم بالقتل لأنهم في حالة حرب ورباط، والموت بالنسبة لهم فيما يعقبه يمنحهم حوافز بالنعيم المقيم، والجحيم والعذاب لمخالفيهم حتى وإن كانوا من نفس الديانة، هكذا تتشكل من انغلاق بنية أفكارهم المرتبطة بالمقدس ثقافة تهيمن في تأثيرها على كل أنساق القيم ورؤية العالم، وهذا نوع من الإرهاب المؤسس بالطبع على ثقافة المعتنق الديني، مثلما هناك إرهاب مرتبط بعنصرية ضد الأعراق الأخرى كالنازية، وإرهاب الجماعات ذات الأفكار الراديكالية وغيرها.

تشتبك الصلة بين الثقافة والحرب بجوانب تحددت تاريخيتها من خلال العلاقة بين العنف المنظم والتطور الاجتماعي، وكثيرا ما كان العنف المنظم أساسا للتحديث في الأزمنة القديمة، بعد نشأة الجماعة الأكثر تنظيما التي أنتجتها المجتمعات الزراعية، وحاجتها للدفاع عن مخزونها من الغذاء، والبحث بعد أن تعددت هذه الجماعات عن صيغة تصون وجودها انتهت إلى نشأة الدولة، التي نبتت في كنفها عاطفيا الروح الوطنية؛ التي أعطت بخصوصية زخمها الثقافي بعدا جديدا للحرب.

من قبل تصادمات القوى الكبرى في الحربين العالميتين الأولى والثانية كانت أحد أساليب الهيمنة لدى دول الاستعمار الأوروبي الكلاسيكي منذ قرون تتمثل في إبادة بعض الأعراق المختلفة ثقافيا غير المتكافأة معها في القوة، في حروب غير متكافئة تغذيها ثقافة الاستعلاء وفرض نموذجها المغاير..

فيما بعد كرد فعل لما اقترفه الاستعمار تبنت بعض من الدول المستقلة سياسات عدائية ضد الدول الاستعمارية، رغم أن أفعال المستعمر القديمة صارت تاريخا منتهيا، وكان رد الفعل هذا يسعى لاستئصال أي من بقايا النفوذ الاستعماري والهيمنة، مما أسفر عن حروب متجددة أحيانا.يرتبط المشهد المعاصر للعلاقة بين الثقافة والحرب بطبيعة استدعاء النزاع القائم على العنف لدى التنظيمات الاجتماعية في إطار دائم الحراك لسسيولوجيا المسرح الدولي، حيث تسعى بعض القوى إلى نبذ غير المنسجمين مع أنماطها الثقافية والأيدولوجية، وليس من الضروري بالطبع أن يقتصر التنظيم الاجتماعي على نموذج الدولة.

واللافت إن الانفجار الهائل في وسائل الميديا في ظل السماوات المفتوحة ووسائل التواصل الاجتماعي التي استشرت أخيرا فاقم الصراعات واسعة النطاق، نتيجة أدلجة الجماهير وهذا ما أشار إليه عالم الاجتماع الأميركي “راندال كولينز” قائلا: “لو لم تكن المعارك الكبرى منظمة اجتماعيا على نحو جيد لصارت مستحيلة”، تعقد أدوات التنظيمات الاجتماعية المعاصرة وطاقتها على الأدلجة جعلها قادرة على تمرير دواعي الحرب، لدى أفراد في غالبيتهم من غير المستعدين بالفطرة لتبنى العنف.

أضحى التحليل الثقافي مع تناميه في ميدان العلوم الإنسانية أحد المرتكزات الأساسية في فهم المتغيرات التي تسود العلاقات في المجتمع الدولي، وغدت علوم كاللأنثربولوجي وعلم الاجتماع منشغلة بتحليل الأبعاد الثقافية للظواهر السياسية على الساحة الدولية، ومن ثم ما يجرى فيها من نزاعات وتجاذبات، تصل في حدها الأقصى إلى الحرب باستخدام السلاح.

لطارق الحريري.

عربية نيوز سكاي_ موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate