هل أسهم العقل الفقهي في إعاقة تأصيل الحداثة؟
لقد ترتّب على حاكمية الفقه في الحضارة الإسلامية سيادة ما يمكن أن نسمّيه “العقل الفقهي”، ذلك العقل الذي يقيم كلّ شيء في حياة الإنسان من خلال المباح والمُحرم، المكروه والمندوب، الشرعي واللاشرعي، هذا العقل الذي طبع العقل المسلم في تلقّيه لأي مستحدث أو جديد في حياته، بما يعني أنّ المنظور الديني الفقهي هو الذي ينبغي أن يسود في حياتنا، وفي تقييم مكتسبات ومنتجات الإنسان في أي زمان، وفي أي مكان.
لا يقتصر هذا العقل الفقهي على الفقهاء فقط، لكنّه أصبح الطابع المميز لعقل المسلم العادي في حياة اليومية
ولا يقتصر هذا العقل الفقهي على الفقهاء فقط، لكنّه أصبح الطابع المميز لعقل المسلم العادي في حياته اليومية، والذي تجده يبحث دوماً عن التبرير الفقهي والديني لسلوكياته وممارسته اليومية، وفي مواجهته مع الحداثة ومنتجاتها على مختلف المستويات؛ فالعقل الفقهي الشرعي يميل إلى التقليد والمحاكاة، ويميل إلى وضع أصول ثابتة تحكم العقل في تفكيره، وهو يركز على ضرورة الاتباع لا الإبداع والتجديد، ويرى ضرورة تقييم أي مستحدث أو بدعة جديدة على أساس من التبرير الفقهي لها.
وتعرَّف الحداثة بأنّها: السعي المستمر إلى العيش في كل ما هو جديد وحديث؛ أي العيش في اللحظة التاريخية الراهنة، كما أنّها تعبر عن حالة من التمرد على التقاليد القديمة، ومن ثم فقد أنتجت الحداثة على مستوى التحديث الأنظمة النيابية، والحريات، والتقدم العلمي والتقني المعاصر، وأسست للمؤسسات الجديدة في الاقتصاد والتجارة والصناعة. إنّ الحداثة تمثل سعياً متجدداً لتطوير وجه الحياة في كافة المجالات، ولذا فهي حالة من الصيرورة البشرية التي تؤسس على الممارسة الحرة للإنسان في حركة الاجتماع البشري، التي أنتجتها الحضارة الغربية في تقدمها.
العقل الفقهي الشرعي يميل إلى التقليد والمحاكاة، ويميل إلى وضع أصول ثابتة تحكم العقل في تفكيره
ما هي حدود العلاقة بين العقل الفقهي وأزمة تأصيل الحداثة في حياتنا المعاصرة؟ منذ فترة مبكرة في تاريخ الفكر العربي الحديث، عمل الرواد من أمثال: رفاعة الطهطاوي (الشيخ الأزهري)، وخير الدين التونسي (رجل السياسة)، في كتبهم إلى الدعوة إلى تأصيل الحداثة من خلال التبرير الفقهي والشرعي، ورؤية التقدم الغربي في ضوء السياق التقليدي الديني، وحاولوا أن يجدوا المقابل الشرعي للحداثة فيقول رفاعة: إنّ ما يسمونه الحرية لديهم يُعادل لدينا العدل والمساواة، ويُرادف بين الشعب والرعية، وبين القانون والشريعة، لكنّه لم يتخلَّ عن عقله الفقهي، حين قال عن الفرنسيين إنّ لهم في العلم حشوات ضلالية، وقوله عن أمريكا: وأما أمريكا فهي بلاد الكفر، ولذا كان رفاعة الطهطاوى ينظر إلى الحداثة من خلال عمامته الفقهية، فيقيمها من منظور الحلال والحرام.
كان رفاعة الطهطاوى ينظر إلى الحداثة من خلال عمامته الفقهية، فيقيمها من منظور الحلال والحرام
والغريب؛ أنّ اللورد كرومر، حين جاء إلى مصر وأراد أن يُؤسس مشروعاً لتحديث مصر، كان يعي تماماً أن العقل الفقهي الديني، يمكن أن يقف حجر عثرة في طريق تأصيل الحداثة في مصر، فما كان منه إلا أن أعاد الإمام محمد عبده من منفاه في بيروت، حتى يقدم اجتهادات فقهية يمكن أن تساعده في تأصيل الحداثة في مصر، بتطوير الفقه القديم حتى يساير حركة التقدم، وأنّه كان يرى في محمد عبده مارتن لوثر الشرق، وحين عاد الإمام محمد عبده كان له اجتهاداته الفقهية المتقدمة، التي ساهمت في تأصيل الحداثة، مثل؛ فتاواه عن الاستثمار، وأرباح البنوك، والتصوير، وتقييد الطلاق، وتقييد تعدد الزوجات، وأرسى الإمام في أعماله فقهاً جديداً، يساير تقدم المجتمع وتأصيل الحداثة بناء على أهمية المصالح المرسلة، والمقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، ولقد قوبل الإمام بوابل من الرفض والهجوم من قبل المحافظين ورجال الدين، الذين كان عقلهم الفقهي يقف حجر عثرة في سبيل التقدم والنهضة والحداثة.
إنّ سيطرة العقل الفقهي على المجال العام في مجتمعات الشرق المسلمة، كان له تأثير بارز في إعاقة تأصيل الحداثة ومنتجاتها في حياتنا، فحين أدخل الملك عبد العزيز آل سعود الراديو في المملكة، استفتى علماء نجد عنه فقالوا: إنّ هذه مستحدثات لا ضير منها في الشرع، ولكن حين طرحت قضايا نقل الأعضاء بين البشر من الصحيح إلى المريض، كانت هناك آراء دينية وفقهية معارضة له لفترة من الزمن، حتى تم تقنين التشريع القانوني، بإباحة نقل الأعضاء، كذلك حين عانت مصر في العقود الأخيرة من زيادة النسل كانت مؤسسة الحكم في حاجة إلى تبرير دينى لضرورة تنظيم النسل، وأهمية تناول وسائل لتنظيم النسل، ولم تجد مؤسسة الحكم من بُدّ في توظيف الفقه في نقل المستحدثات الجديدة؛ بل إنّها وظفت العقل الفقهي في تبرير وضبط حركة البشر في مسألة حق المرأة في قيادة السيارة، الذي حرمه العقل الفقهي بالأمس في المملكة العربية السعودية، وها هي اليوم من خلال الفقه أيضاً تبيحه.
سيطرة العقل الفقهي على المجال العام بمجتمعات الشرق المسلمة كان له تأثير بارز في إعاقة تأصيل الحداثة
من هنا فقد أدركت السياسة سيطرة العقل الفقهي على المجال العام، فكانت توظفه إما في تبربير قراراتها التنموية، أو تبرير قمع الحركة الحرة للأفراد.إنّ سيطرة العقل الفقهي على المجال العام، يؤخر تأصيل الحداثة في مجتمعاتنا، ويعوق التقدم الحر للأفراد تجاه تحقيق الحداثة، وما التقدم الذي يحدث في ماليزيا أو تركيا أو أندونيسيا، إلا نتيجة تحجيم دور العقل الفقهي، وإدارة شؤون الدولة، وشؤون المجتمع، وفق قيم الحداثة الدنيوية والعلمانية، التي سمحت للاستقلال الحر لحركة الأفراد وحركة المجتمع، بعيداً عن قيم ومحددات العقل الفقهي، الذي يكبّل حركتهم، ومن ثم لا بديل لنا في هذا العصر، في ظلّ تطور حركة المجتمع، أن ندير حركة المجتمع وفقاً لقيم العقلانية والعلم التي أرست الحداثة دعائمهما، وفي حالة استمرار سيطرة العقل الفقهي على مقدرات المجال العام، ستظل مجتمعاتنا عاجزة عن تأصيل حداثة حقيقية في حياتنا الراهنة.
لأحمد سالم.
حفريات_موقع حزب الحداثة.