هل الحداثة الإسلاميّة ممكنة؟
عقب اندلاع الحركة الثوريّة في إيران العام 1979 وتمّكن التيار المحافظ، بقيادة الخميني، من الوصول إلى السلطة، حدث انقسام عميق في صفوف اليسار الإيراني؛ إذ أيد حزبان يساريان كبيران هما حزب “توده” الموالي للاتحاد السوفيتيّ وجبهة “مجاهدي خلق” (يسار إسلاميّ) إقامة نظام إسلاميّ في إيران، بسبب المواقف المعادية للإمبرياليّة (مواجهة قوى الاستكبار) للقادة الإسلاميين وحرصهم على تطبيق العدالة الاجتماعيّة (رعاية المحرومين) فيما رفض قسم آخر من اليسار النظام الإسلاميّ برمته ورأى في وجوده إعاقة للتحديث والاشتراكيّة ينبغي الإطاحة بها دون تردد.
نقد الأصوليّة هّم ذاتي
لم يكن الخميني يرى في اليسار البلشفيّ حليفاً له، ورأى في اليسار الإسلاميّ منافساً محرجاً يرفض ولاية الفقيه ويدعو (من منطلق إسلامي) للديمقراطية والحرص على التعددية السياسية، ويروج لقيم التسامح والاختلاف.
فبدأت مسيرة القمع لكلا جبهتي اليسار العلماني: المعارض أولاً، والمؤيد ثانياً، فيما تحطم اليسار الإسلاميّ في خضم مواجهة عسكريّة مع الجمهورية الإسلاميّة الوليدة (وسوف تصبح “مجاهدي خلق” في المهجر لاحقاً من أشد أعداء النّظام الّذي يعتبر المنستبين إليها مجموعة من الخونة، خصوصاً بعد أن أيّدت المنظّمة العراق في حربه مع إيران في الثمانينيات).
ضمن الذين زُجّ بهم في السجون؛ طالبٌ يُدعى بهروز غماري تبريزي، كان ناشطاً ضد دكتاتورية الشاه المدعوم أمريكياً ومتأثراً بالماركسية اللينينيّة؛ التي كانت الأساس الأيديولوجيّ لكثير من حركات التحرر الوطني اليسارية في العالم الثالث، قبع بهروز لمدة أربع أعوم، في الفترة ما بين 1981 و1985 في سجن “لجنة التوحيد” في إيران وهو سجن ورثه الحرس الثوري عن “السافاك” (شرطة الشاه السريّة) وقرأ الطالب المعارض القرآن الكريم لأول مرة في حياته خلف القضبان وخضع لبرنامج تثقيف أيديولوجيّ إسلاميّ واطلع على الكتابات المعاصرة عن الفلسفة الإسلاميّة والاقتصاد الإسلاميّ والسياسة الإسلاميّة، وهو الماركسيّ اللينينيّ الذي يرى في الدين “وعياً زائفاً”.
ينتهي تبريزي إلى أنّ الإسلامويّة تشمل الحداثة وثنائياتها الاجتماعية ومبادئها الثقافية وتكشف أطروحته تنوع خطابات الحداثة الإسلامويّة
امتلك الطالب السجين مناعة ضد التدريب الأيديولوجيّ المفروض عليه في السجن، بفضل يقينه بمشروعية عقيدته الماركسيّة واقتناعه التام بأنه بحكم ماركسيته وتقدميته “جزء من قوة التاريخ التي لا رجوع فيها، وجزء من كشف الضرورة التاريخيّة” لكن حين خرج من السجن التقى ثانيةً بالأدبيات الإسلامية أثناء دراسته العليا، وعلى النقيض مما هو متوقع بأن يدرس عقائد خصومه الذين ألقوا به في السجن أصبح أكثر اهتماماً بإعادة اختبار عقائده هو، وسرعان ما اكتشف كما يقول أنّ “العقديتين (الإسلامويّة والماركسيّة) لا يمكن تمييزهما، باعتبارهما أيديولوجيتين إجماليتين” لذا أعاد تعريف عقائده السابقة بأنها الأصولية الماركسيّة اللينينيّة.
حتى لا تمر ما بعد الحداثة بطهران
بدأ تبريزي في دراسة الظاهرة الإسلامويّة ليؤلف كتاب” الإسلامويّة والسعي إلى الحداثات البديلة” الذي صدرت ترجمة عربيّة له للمترجم الراحل أحمد محمود عن المركز القوميّ للترجمة في مصر العام 2018 في 308 صفحات من القطع المتوسط. ويتكون الكتاب من ثمانية فصول: الحقائق الأيديولوجيّة، الماضي والحاضر، السلفية والجذور الاسلاميّة للحداثة، ما بعد الحداثة وظهور الإسلامويّة، الشتات المسلم في أمريكا الشمالية، مشروع الأسلمة والنقد الغربي للعالمويّة، مشروع أسلمة الجمهوريّة الاسلاميّة والساخطون عليه، صمت الشريعة، عبد الكريم سروش ومشروع الأسلمة، وأخيراً يحاول الإجابة عن السؤال المهم في الخاتمة: هل الحداثة الإسلامويّة ممكنة؟
ويموضع بهروز نفسه بدايةً في الاتجاه العلمانيّ الذي يشدد على خطورة الفهم “النسبّي” لفكرة التقدم، حيث يصبح التاريخ مجالاً مفتوحاً لإمكانيات لا نهائية وليس حركةً طبيعية ذات قوانين مميزة مدفوعة دائماً إلى الأمام، ويرفض مقولة الخصوصيّة المشيّدة على فكرة إمبرياليّة النزعة الكونيّة.
ويذكُر تبريزي تحذيراً من أحد المثقفين الإيرانيين حين همّ بالشروع في إعداد رسالته التي نحن بصدد مراجعتها حين قال له: “لا ينبغي لنا السماح لما بعد الحداثة بأن تعبر حدود إيران” فبدون مرجعيّة معياريّة وكونيّة (الحداثة) سيشرعن النظام الإسلاميّ في إيران فظائعه طبقاً لـ “قوانينه الثقافيّة” ولا يمكن في مواجهة ذلك انتقاد انتهاك الجمهوريّة لـ “حقوق الإنسان” المنزوع عنها غطاؤها الكونيّ، هذه الإجماليّة الثقافية (ضداً من الخصوصيّة) هي ما سيدافع عنه بهروز على مدار الكتاب.
تحديث الإسلام
يحدد الباحث الإيرانيّ فترتين مميزتين في بناء الردود الإسلامية على الحداثة الأوروبيّة، وهي: 1-الاختراق الاستعماريّ للمجتمعات الإسلاميّة واتجاه جمال الدين الأفغاني المعادي له على أسس سلفيّة في أواخر القرن التاسع عشر، 2- تصاعد نقد الحداثة عالميّاً ومحاولات الإسلامويّة تأطير نفسها بداخله وطرح نفسها كبديل يقيني لعالم يعاني ارتياباّ شاملاً وعنيفاً.
لم يكن الخميني يرى في اليسار البلشفيّ حليفاً له ورأى في اليسار الإسلاميّ منافساً محرجاً يرفض ولاية الفقيه
فقد كانت مدرسة الإحياء التي قادها الأفغاني (1838-1897) ومن بعده محمد عبده (1849-1905) تروم، حسب تحليل تبريزي، الرد على أسطورة “المعجزة الأوروبيّة” القائمة على فكرة أنّ أوروبا في الأصل تقدميّة على نحو فريد، وأصبح مفهوم التقدم ضمن هذه الأسطورة معياراً أوروبياً اُعتبرت بواسطته الديناميكيات التاريخية للعالم غير الأوروبيّ “محض انحراف”، وتحوَّل غير الغربيّ وفقاً للمعياريّة الأوروبيّة إلى “ما قبل الحديث” ومن ثمّ كان التحديث يعني ضمناً التغريب، فردت مدرسة الإحياء الإسلاميّ بأيديولوجيّا مضادة تعتبر أنّ التقدم ملمح فريد من ملامح الإسلام، وأنّ أوروبا حاكت النهضة الإسلاميّة في العصور الوسطى.
وعى الأفغاني بدقة الفرق بين التحديث والتغريب، وكان رفضه للتماهي مع التغريب أرضيّة مناسبة ومُحصنّة لانتقاد العلماء التقليديين الذين ساووا بين الحداثة والتغريب أو تبنوا مقلوب النزعة المركزيّة الأوروبيّة (التي ترى التقدم حكراً على الرجل الأبيض) إسلاميّاً، وذلك على عكس الذين انخرطوا مبكراً في السياق التغريبيّ الذين كانوا موضع انتقاد من مواطنيهم ولم يكونوا أهلاً لإسداء النصح والتوجيه بخصوص العلاقة بين الإسلام والحداثة.
وكانت نظرية الأفغاني الكلاسيكيّة الداعية إلى نقل العلوم والتكنولوجيا ووسائل الإدارة العقلانيّة الحديثة مع رفضه الشديد للتغريب، تستند إلى قناعة مفادها أنّ التحديث مشروع إسلاميّ يجب إنجازه، عبر التواصل مع، والارتباط بالتراث الإسلامي، وليس من خلال القطيعة معه كما فعلت أوروبا مع ماضيها المسيحيّ؛ فقد كان يعتقد بإمكانية الاستفادة من العلوم والتكنولوجيّا الغربيّة دون دفع ثمنها بالهويّة الثقافيّة.
في المجمل، ركزت مدرسة الإحياء جهودها على إضفاء طابع الحداثة على الإسلام بدلاً من إضفاء الطابع الإسلاميّ على الحداثة، كما فعلت الإسلامويّة المتأخرة التي لامت مدرسة الأفغاني على تقديم تنازلات تتنافى مع بعض بنود الإيمان، في سياق ردها الدفاعي عن الإسلام في مواجهة غرب متفوق ومقتحم وعنيف.
أسلمة الحداثة
مع ظهور العولمة انسجمت مسألة الشك وعدم اليقين مع خبرات الأشخاص العاديين الحياتيّة، وأُجبر الناس على العيش في ظل مجتمع المخاطر بعد تحررهم من “صدقة” دولة الرفاه التي عاد الدين على إثر تفكيكها. ويرفض غماري التعاطي مع مسألة عودة الدين تلك كـ”يوتوبيا نكوصيّة” كما يرفض النظر إلى الدين باعتباره بناءً راسخاً يسكنه من جديد كل جيل، ويعتبر أن إحياء الإسلامويّة في العقود الأخيرة يستدعي فهماً يُنظر فيه إلى الدين على أنه ناشئ وديناميكي، شيء يُعاد إنتاجه على المستوى العملي للحياة اليوميّة ويُعاد توضيحه باستمرار ويكون هناك صراع بشأنه في كل لحظة تاريخيّة.
كان بهروز غماري ناجحاً في تجاوز التعاطي مع الإسلامويّة باعتبارها كلّاً لا تاريخي، لكنه أخفق في قولبة الإشكال الإسلامويّ
ويفند تبريزي الصورة الشائعة للإسلامويين باعتبارهم “ضد الحداثة”، ويوضح أن السؤال الأساسي هو ما إذا كان بالإمكان اعتبار الإسلامويّة حركة اجتماعيّة سياسيّة لبناء نمط أوروبي على نحو مميّز للحداثة يمكن إدراك تجليه المحدد بشكل مختلف في المواضع الثقافية المختلفة؟ وهو ما يحاول الإجابة عنه عبر الجمع بين ثلاثة مناهج: التحليل التاريخي الثقافي، والمقابلات والبحث الأرشيفي، والتحليل الخطابي: مشروع الأسلمة الخاص بالطبقة المثقفة المسلمة المرتبط بالمعهد الدولي للفكر الإسلامي، والإسلام المعارض لعبدالكريم سروش، الذي يعد من أكثر الباحثين الإسلاميين إثارة للجدل والخلافات في إيران ما بعد الخميني.
وينتهي تبريزي إلى أنّ الإسلامويّة الجديدة (وهي وجهة نظر ذات احتمالات مختلفة) تشمل الحداثة وثنائياتها الاجتماعية ومبادئها الثقافية، وتكشف أطروحته تنوع خطابات الحداثة الإسلامويّة، وتوضح كيف خلقت تكنولوجيات الاتصال الجماهيري فضاءً تنشأ فيه أشكال جديدة من “الإسلام العالمي” وهدف الإسلامويّة هو صياغة نموذج من الحداثة يتساوى مع فرضيات هذا “الإسلام”.
كان بهروز غماري ناجحاً في تجاوز التعاطي مع الإسلامويّة باعتبارها كلّاً لا تاريخي، لكنه أخفق في قولبة الإشكال الإسلامويّ على هذا النحو؛ فالنظر إلى الإسلامويّة على أنها حركة اجتماعية ساعية لصياغة نمط مميّز من الحداثة يشلّ فاعليّة البعد الكونيّ للحداثة، ويترك مجتمعات الجنوب فريسةً لاتجاهات الخصوصيّة التي وإن لم تكن نكوصيّة بالكامل إلا أنّها تعرقل بناء مجتمع حديث.
ومن ثّم سيكون علينا إعادة تقييم تلك الاعتبارات على ضوء التطورات التاريخية التي أعقبت دراسة تبريزي، حيث دقت الإسلامويّة إسفيناً داخل الجسم الاجتماعي في كل بلدان الجنوب، ومهّدت الأرضية لمزيد من الصراعات الهويّاتيّة في أبشع أشكالها دمويّة، ولمعالجة هذا التصدع الرأسيّ لا يمكن تفادي سؤال: ما الوعد الذي تقدمه الإسلامويّة غير تفتيت المجتمعات وإرباك البنى السياسيّة بتحويل الدين إلى أيديولوجيّا تعتبر التسلط حقاً مكتسباً لا يمكن الجدال بشأنه؟
لمحمد جبريل.
حفريات_موقع حزب الحداثة.