المقدَّسُ والحُرّيّة: هَلْ منْ تَعَاْرُض؟
“المقدّسُ” و”الحُرّيّةُ” كلمتان تأخذانِ بالألباب؛ لهما وقْعٌ خاص على العقل والروح، تضُخّان في واقع الفكر والثقافة مفاهيم وطروحات عديدة، وتثيران “جدالات” ونقاشات مديدة وكثيفة المعنى والحضور والدلالة، وهما تنتميان إلى حقلين أو فضاءين دلاليين مختلفين، في قاموس الحياة والروح الكبيرة التي تحاكي المطلق في تمثّلاته الخلاصية الأبدية، وإنْ بدا لنا وجود مساحة توافق واتفاق لحظي عابر بينهما.
وعبر مسيرة التّاريخ الإنساني، وقعتْ بسبب هذا الاختلاف بين المقدس والحرية، صراعات وحروب، واشتعلتْ من أجلهما فتن واضطرابات كلّفت البشرية دماء ودموعاً كثيرة… وربما كان السبب الجوهري الأعمق وراء صدام المقدس (المطلق الديني) والدنيوي (القيمي النسبي) هو (من زاوية المقدس) التعاطي مع هذا المقدس كهوية “معيارية” قارّة (لا تنفك عن الثبات ورفض التحول والسيرورة)، تتحدّد بأُطُر صلْبة ومحددات كاملة نهائية لا يمكن النيل منها أو الفكاك من تأثيراتها على واقع (ومستقبل) الحركة البشرية في تفاعلاتها الحية المستمرة… والسبب الآخر للصدام من زاوية (قيمة ومفهوم الحرية)، رغبةُ الإنسان الجامحة والعارمة للتحرر من أسر العبودية والخلاص من قيدها الذاتي الذي لاحقه وكبله تاريخياً وواقعياً، تارةً باسم المقدس الديني، وتارة باسم المقدس (العلماني) و”صنميات” الوجود الأرضيّة الثقيلة الأخرى.
هذا التعارض الخطير البالغ أمره حدّ التناقض البنيوي والصدام كما قلنا، والذي وقع تاريخياً، وما يزال، بين المقدس والحرية، بين ما يعتقد بكونه مبدأ كلياً مفارقاً، وبين قيم الإنسان التّوّاق للتحرر والشعور بــ “الفردانية” والوجود الحقيقي لا وجود الظل، لم يكن ليتحرك ويبرز لولا انغلاق العقل، وأحادية التفكير، ورفض الآخر، واحتكار الحقيقة، وسد منافذ الحوار.. إنها مفردات الفشل الحضاري العام ذاتها الذي بتنا نقبع (نحن العرب) في داخله بلا حراك أو مناعة مؤثرة، بينما نجح غيرنا في الغرب (وفي غير مجال أممي حضاري)، في السير على دروب الحداثة عقلاً وسلوكاً وبنى ومفاهيم وتصورات، بعدما انتصر على طروحات التدين التاريخي بأنماطها وسلوكياتها التقليدية المؤسطرة، فحجّمها، وأعطاها مكانتها الطبيعية، معيداً إياها إلى نقطة اشتغالها الأولى، حيث توازنها الطبيعي ومكمن حضورها الذاتي.. هذا كله جرى في سياق حركية إنسانية تراكمية ضخمة، انطلاقاً من مبايعة العقل البشري ملكاً متوجّاً وميزاناً قيّماً على البشرية، في الفكر والإبداع والإنتاج الحضاري، وفي الوقت نفسه، إنزال المقدّس الديني من عليائه السّماوي المفارق إلى واقع الحياة والأرض، ليكونَ موضوعاً قابلاً (للنقاش والبت والتّدقيق والضبط والإضافة والتعديل)، وواقعاً نسبياً خاضعاً لمنطق العقل والسيرورة والتّحول البشري…
فما هو هذا المقدس؟ وهل له تعريف محدد؟ ولماذا يحظى بكل الاحترام والتقدير إلى درجة الذوبان والتضحية بالنفس والروح والجسد؟!..
وما هي هذه الحرية التي تصادمت تاريخياً مع المقدس؟ وهل يكمن التوفيق بينهما كمجالين مختلفين؛ على مستوى الفعل البشري؟..
معنى المقدس:
لن نعرّف المقدّس تعريفاً مدرسياًّ، ولن نتدخّل في أي بحث قيمي حول ماهيته، وأغراضه، ووظائفه… سنحاول فقط فهمه من خلال مظاهره وآثاره وأفهامه التاريخية التي تجلّت في الفكر والعقائد والنصوص والأحاديث التي جاءت بها أديان ونصوص تاريخانية وأخرى واقعية…
اختلف الناس في تحديد معنى المقدس، ولعل اختلاف مقدسات الشعوب، كان سبباً في عدم ضبط تعريف جامع ودقيق له؛ فما هو مقدس فكراً وقيمة عند شعب من الشعوب وحضارة من الحضارات مثلاً، ليس من الضروري أن يكون مقدساً عند شعب آخر أو حضارة أو أمة أخرى، بل قد يكون مثار جدل أو حتى مصدر أو دافع للسخرية لديهم، والعكس صحيح… فبعض الشعوب تقدّس أنواعاً من الحيوانات، وأخرى تتعبد بشراً، وهذا يناقض مقدّسات غيرهم من المسلمين والمسيحيين…بما يعني أن هناك تنوعاً في المقدسات وتعددية في وعيها وتمثلها وتعريفها.
والمقدس، معنى ثابت المضمون، أو فكرة أو حكاية أو معايير ونصوص أيديولوجية تختص باللاإمكان البشري، الخارج من نطاق التصور والممكن العقلي، وهو ابتداءً (وفقاً للإيمان الإسلامي) ما يحيل إلى الموجود المفارق المتعالي أو العلي السامي، الطاهر، المبارك الذي يحظى بالاحترام والتبجيل بإطلاق، ولا يجوز تدنيسه وهتكه والاعتداء عليه وخرق حدوده وأحكامه. ويلحق به –على سبيل التقديس نفسه- تجلياته في القول أو الفعل أو الاختيار. ويعرف هذا المفهوم أيضاً بنقيضه الذي هو “غير المقدس” أو “الدنس” أو “النجس”، أو “غير الطاهر” وكل ما هو “محايث” أرضي، دنيائي.
وأما في معاجم اللغة، فتأتي كلمة “قدس” في الصحاح اللغوية بمعنى الطُهْرُ، وهو اسمٌ ومصدرٌ. ومنه قيل للجنَّة حظيرة القُدْسِ. وروح القُدُسِ: جبريل عليه السلام. والتَقْديسُ: التطهيرُ. وتَقَدَّسَ، أي تطهَّر. والأرضُ المُقَدَّسَةُ: المطَهَّرةُ. وبيت المُقَدَّسِ والمَقْدِسِ، يشدَّد ويخفَّف، والنسبة إليه مَقْدِسِيٌّ، مثال: مجلِسِيٍّ ومُقَدَّسِيّ. والقُدُّوسُ: اسمٌ من أسماء الله تعالى، وهو فُعُّولٌ من القُدْسِ، وهو الطهارة. وكان سيبويه يقول: قَدُّوسٌ وسَبُّوحٌ بفتح أوائلهما. والقدَسُ بالتحريك: السَطْلُ بلغة أهل الحجاز، لأنه يُتَطَهَّرُ فيه. والقُداسُ بالضم: شيءٌ يُعمل كالجُمان من فضَّة. قال الشاعر يصف الدموع: كنَظْمِ قُداسٍ سِلْكُهُ مُتَقَطِّعُ.
وفي الموروث اللغوي والمفهومي العربي، يصيب (الفيروزبادي) المعنى الجوهري للمقدس والقدس، إذ يرده إلى مفهوم محدد دقيق هو الطهر. والقُدّوس والقَدُّوس، من أسماء الله تعالى، هو الطاهر أو المبارك (القاموس المحيط). وهذا المعنى يتقاطع مع معاني النقي بإطلاق، غير المدنس، الجدير بالاحترام والتبجيل والتقدير و”العبادة”.
معنى الحرية:
لم يتمكن الإنسان من وضع تعريف ثابت ومحدد ونهائي لمعنى الحرية، ليس لتعقيدها وتراكبها كمفهوم وسياق، بل لسهولتها الممتنعة فكراً وعملاً، واختلاف معناها النظري والعملي باختلاف الأيديولوجيات والمذاهب والأنظمة الفلسفية والسياسية المتعددة التي تحددها وتعرفها… ولكن البحث في موضوع الحرية بالذات يبدو أمراً ناقصاً أو غير ذي معنى من دون البحث في ماهية الإنسان والوجود الإنساني، وحقيقته ومكانته، ودوره، والقيم التي يلتزم بها، ومصلحة الفرد ومعايير ومبادئ الحقوق العامة…
من هنا معنى الحرية في الأنظمة غير الدينية (التي تعتبر الفرد البشري جزءاً من مناخ ومنظومة فكر وآلية السوق الساعية للسعادة المادية) مختلف كلياً عن معناها في النظم الأيديولوجية ذات البنى والمفاهيم الدينية..
وقد جاء في مقدمة اللائحة العالمية لحقوق الإنسان:”أساس الحرية والعدل والسلام العالمي، الاعتراف بالكرامة الذاتية لأعضاء الأسرة الإنسانية كافة”.ويلاحظ على هذا التعريف، أنه ربط الحرية بالكرامة الذاتية للفرد البشري، بما يعني أنها مسألة مهمة للغاية، لأنها أساس استتباب قيمة الحرية، وتحولُّها إلى واقع حي وملموس… ولكن ما هي هذه الكرامة الذاتية (كقيمة غير قابلة للتمييز)؟… ولماذا رُبطت الحرية بها، باعتبارها من خصوصيات الإنسان الذاتية بصرف النظر عن دينه وجنسه وشكله ولونه؟!!..
الكرامة الذاتية هي درجة خاصة متقدمة من الوجود الذي يجب أن يتمتع به الإنسان في حياته العامة، وهي مهمة تكوينية لا تشريعية، أي أن الإنسان وجد أساساً وكرامته محفوظة ذاتياً له، نظراً لإنسانيته ودرجته الوجودية المتقدمة على غيره… أي أن مصدر هذه الكرامة الذاتية للإنسان هو هذه الدرجة الوجودية التي عليها هذا الإنسان، والمهمة التي يحملها من قبل الطبيعة. ولا يمكن تعليل الحقوق إلا كونها من الطبيعة، ومن خلال معرفة مبدأ العلة الغائية؛ أي النظام الغائي للوجود، باعتباره مصدراً للحق. بما يعني أنه لا بد من احترام حرية الإنسان كحق ذاتي تكويني نابع عن الكرامة الذاتية للإنسان، كي يبلغ (هذا الإنسان) كماله الجدير به (كماله الممكن له). وهذه الكرامة الذاتية، هي الروح الإلهية، والإرادة الإلهية للإنسان.
والحرية بما هي قيمة بشرية، تفترض عدم وجود عقبات وموانع أمام الحركة الإنسانية المتطلعة للعمل والبناء والإبداع… وعدم أذية الإنسان والتعرض له، وإتاحة الفرص والخيارات الواسعة أمامه لنيل وجوده الحقيقي، وتكامُل عناصره الذاتية على طريق العمل والإنتاج والإبداع، مع احترام وتقدير كامل لرغباته وقناعاته وخياراته وأفكاره وعقائده… وبطبيعة الحال، لا يكون الإنسان حراً إلا بهذا، شرط عدم تصادمه مع قناعات الآخرين، وعقائدهم، وانتماءاتهم المتعددة. وهذا المناخ القابل، لا يتوفر إلا في ظل دولة “الحداثة العقلية”، دولة العدل والمساواة، دولة القانون والمؤسسات، دولة الفصل الكامل للديني عن الدنيوي، فكراً وممارسات.
طبعاً الإسلام، كدين اجتماعي، يتيح لأفراده، التعبير الخلاق عن قناعاتهم، ولكنه، وخلافاً للفلسفة الغربية القائمة على تفكير أداتي وظيفي لفكرة الحق والحقوق (يعني: الحق الكامل بلا تقييد)، تعني الحرية الحقيقية عنده، توفير القابليّات والاستعدادات الذاتية والموضوعية للإنسان، لكي يتحرك ويتكامل على طريق تحقيق سعادته الدنيوية والأخروية؛ أي التحرر والخلاص من العقبات التي تحول دون نمو قابليّات الإنسان وطاقاته.
من هنا تنطلق وتبدأ الحريّة الحقيقيّة للإنسان، حينما يثقُ الإنسان بذاته وعقله وقدراتهما، وذلك لأنّ التّطلع إلى الحرية دون الثقة بالذات والعقل، تحوّل هذا التّطلع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين دون هدى وبصيرة، لذلك فما لم يكتشف الإنسان ذاته، ويفجّر طاقاته المكنونة، لن يتمكن من اجتراح تجربته في الحريّة، وبناء واقعه العام على قاعدة الديمقراطية والشراكة بكل مستوياتها، كما يقول الدكتور (علي حرب) أنّ الحرية ليست هواماّ ليبرالياّ كما يتخيلها السذج من الحداثيين الحالمين بفراديس أرضيّة أو بديمقراطيات مثاليّة، هذه أكبر عملية خداع مارسها -وما يزال- المثقفون العرب والغربيون فيما يخص تحديث المجتمعات العربية وتطورها، ذلك أنّ الذي يمارس حريته هو الذي يجترح قدرته ويمارس سلطته وفاعليته، بما ينتجه من الحقائق أو يخلقه من الوقائع في حقل عمله أو في بيئته وعالمه.. ومن لا سلطةَ له لا حريّة له، ولذا فالحريّة عمل نقدي متواصل على الذات، يتغيّر به المرء عما هو عليه، بالكدّ والجهد، أو المراس والخبرة، أو السبق والتّجاوز أو الصّرف والتحوّل، مما يجعل إرادة الحرية مشروعاً هو دوماً قيد التّحقق بقدر ما يشكّل صيرورة متواصلة من البناء وإعادة البناء.
وكون الحريّة عملاً نقدياً، يعني أنها تخضع لمنطق العقل والقانون الضامن لحقوق الغير (الآخر) في إجبارها على عدم تحولها إلى حالات تفلّت وفوضى وتحرّر من التزامات وقيود ومحددات واقعية قانونية.. بعضها اجتماعي أو سياسي أو ديني أو غيرها. وقد يتحول بعضها ليكون مانعاً من تحقق فكرة وقيمة الحرية ذاتها؛ فالوراثة، والمحيط الاجتماعي، والمحيط الطبيعي والجغرافي، والتاريخ والعوامل الزمنية كلها معيقات واقعية وعملية للحرية.
المقدس والإنسان في سياق تاريخي:
جعلت كثير من شعوب العالم وحضاراته من مقدساتها “هوية” ثابتة ومعيارية لها… تمارسها وتدعو لها، وتحافظ عليها، طقساً وسلوكاً راسخاً عبر كل التاريخ. والحضارة الإسلامية ليست بدعاً من تلك الشعوب والحضارات، فقد كانت –وما زالت- تمتلك مقدسات “هوياتية” إذا صح التعبير، تنوعت بتنوع فرقها ومللها ونِحَلها… فهل يمكن لتلك المقدسات (الهوياتية) التي تصادمتْ تاريخياً مع رغبة المسلم في التحرر والانطلاق، والبناء والإثمار الحضاري، هل يمكن لها أن تكون قادرة على إعطاء حامليها طاقة الانبعاث والتجدد والإبداع والبناء، وتمثُّل تطورات الحياة والعصر من جديد، لا بل والحضور المنتج فيهما، من دون التعارض والتناقض مع الحرية بألوانها وأشكالها الفردية والاجتماعية العامة؟!… خاصة في مجتمعات عربية تعاني من هيمنة تيارات التعصب الديني المتجلبب بعباءة القداسة النصية التاريخية، وأسلحة الفتوى والشرع، ومن استبداد نخب الحكم العربي في منعها لأي تطور سياسي مدني طبيعي، يمكن أن ينقل تلك المجتمعات من عهود القداسة (الدينية والسياسية) المزيفة، إلى عهد الحريات والمشاركة والمواطنة الصالحة؟
تشكل الهوية الثقافية الحضارية لأي مجتمع من المجتمعات الإطار النفسي والفكري العام الذي يعبّر عن وجوده الاجتماعي، وحراكه السياسي العملي…إنها نتيجة طبيعية للتفاعل الحاصل بين مجموعة من العوامل الفكرية والمعرفية التي تحكم سلوك أعضائه، توجه حركتهم، وتحدد لهم مساراته المختلفة في الحياة، وذلك على مستوى التأهيل الصحيح والواضح للشخصية العامة للفرد (والمجتمع ككل) لتحكم على طبيعة العلاقة الكائنة بين الأنا وبين الآخر، بما تختزنه (هذه الهوية) في داخلها من قيم ولغة وعادات وتقاليد مشتركة، وتعبر عن ذات الجماعة التي تقوم بممارسة تلك المشتركات ضمن وطن واحد. وبذلك، تكون الهوية – بالمعنى المذكور أعلاه- مرتبطة بالوعي التاريخي الوطني والثقافي، وليس بالمقدس الديني الثابت والراسخ، من أجل أن يكون التاريخ مصدر علمها وثقافتها وانفتاحها وامتدادها إلى ساحات الحياة الإنسانية كلها.
من هنا تطرح علينا متطلبات الحياة المتغيرة باستمرار أسئلة ثقافية ملحة، تتعلق بالعلاقة القائمة حالياً، أو التي يجب أن تقوم بينها وبين الهوية الثقافية والحضارية (المقدس الديني) للمجتمعات التي صدمتها تحديات العصر (ومنها العولمة) بتعقيداتها وتشابكاتها المتعددة، ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية..
إنّ الفكر الإسلامي الحقيقي لا يمكن أن يعيش، ويتطوّر، ويتكامل، إلا بالتفاعل الصريح والواضح مع الواقع المعيش، وإنّ بقاء النص غائباً (أو مغيّباً) عن الواقع سيقلّص مساحة الحرّيّة أكثر فأكثر في داخل اجتماعنا الديني والسياسي.
فعلاً، إنّنا في أشدّ الحاجة إلى عنصر الحرّيّة المنفتح على معنى المقدس، من أجل تطوّر مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، ونموّها، وتصاعدها، لتتنفّس الحرّيّة في الهواء الطلق، بعيداً عن مناخات القهر، والاستعباد، والاستبداد التاريخي والمقيم، وبعيداً عن كل معاني القداسة الزائفة التي تقبع داخل سجونها، وتكبّل مواهب أبنائها وقدراتهم عن العمل والنهوض الفعّال لبناء حاضرها ومستقبلها. ونحن نقولها بالفم الملآن، إننا بأمسّ الحاجة إلى أن نقتحم فضاء الحرّيّة، ونكشف المضمون الثري لهذا الفضاء في قيم الإسلام ومثله؛ إذ إنّ هذا الاقتحام سيقدّم للفكر الإنساني أبعاداً ومضامين جديدة، ويزيد من إمكانية المسلمين للتفاعل مع العصر وقضاياه الكبرى، ويسهم في خلق شروط الحرّيّة الفعليّة والتداول السلمي للسلطة، واحترام حقوق الإنسان.
ولهذا شرط أوّلي هو الإنصات الواعي والتأمّل العقلاني في تطوّرات الواقع القائم، وتحدّياته، وأسئلته الهائلة، وقراءة النص (المقدس) في سياق وقائع الزمان والمكان، ومستجدّاتهما، وليس العكس، كي تكون أفكارنا وممارساتنا متوازنة ومنسجمة مع قوانين التطوّر الحياتي، ومنطق التاريخ الإنساني، بما يؤدّي إلى جعل خياراتنا واستراتيجيّات عملنا واضحة وناضجة وسليمة في المقدّمة والنتيجة بعيداً عن العنف والتعصب والقداسة المفتعلة. لأن التعصب لا يحمي المقدسات، بل يشوهها، ويخيف الناس منها.. كما أن العنف لا يوقف الإساءات التي قد تمارس تجاه مقدسات الأمة وثوابتها… بالعكس، لا يمكن المحافظة على مقدسات المجتمع إلا في ظلال الحرية المنفتحة، حرية الضمير، وحرية الفكر، وحق التعبير عن الذات والرأي والقناعات، وحق تمثل تلك القداسة سلوكاً ضمن فضاء القانون المدني وأجواء الحرية السياسية والاجتماعية…
والصورة المثلى التي تنشدها المجتمعات العربية والإسلامية، هي أن تعيش حريتها كاملة على قاعدة احترام مقدساتها…
وقد كلّف الصراع بين الديني والدنيوي بين المقدس والمدني، اجتماعنا السياسي العربي فواتير باهظة، خاصة على صعيد ما أصابه من حالة العجز المطبق عن صياغة ممكنات قانونية وتعاقدات اجتماعية مدنية جديدة، في ظل هذا التصلب العقائدي والتحجر الفكري الذي يطغى على جل الحركات والتنظيمات السياسية العربية من أقصاها اليميني إلى أقصاها اليساري، ما حال (ويحول) دون إعادة بناء علاقة الدولة بالمجتمع على أسس سوية، من الانحياز لقيم الحرية والحداثة والحرية والديمقراطية والعدالة.وقد كانَ لحضور المقدس في السلوك اليومي لمجتمعات العرب أثره السلبي على وعيهم السياسي وإرادتهم العملية، من خلال تعميقه لثقافة الاتكال وعقلية التواكل وسلوكية التقاعس والتثاقل إلى الأرض، لجهة تعميق عقلية القدرية والجبرية لديهم، هذا كله سبب شللاً وعجزاً عن التفكير والتأمل الحقيقي بمفردات الوجود الذاتي والموضوعي، ودفن فكرة المغامرة وروح الإبداع لديهم، وأصابهم بالإحباط الشامل، والاستقالة الوجودية…والدليل على ذلك واقعهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، حيث نجدهم ما زالوا قابعين في عصر ما قبل الدولة المعاصرة، ولم يتمكنوا بعد من تطوير واقعهم السياسي نحو الدولة الحديثة القائمة على التشارك السياسي والاندماج الاجتماعي (اندماج المكونات المجتمعية)، والمواطنة الصالحة، وحكم المؤسسات والقانون، والحداثة العقلية..
لنبيل علي صالح.
مؤسسة مؤمنون بلاحدود_موقع حزب الحداثة.