قراءة في كتاب الاجتماع الديني الشيعي للدكتور علي المؤمن:(2)
وفي الفصل الخامس من الكتاب (الحوزة العلمية: المؤسسة الدينية للنظام)، يتحدث الدكتور علي المؤمن عن عدة نقاط تختص بالحوزات العلمية وتطورها التاريخي، وخاصة النجف الأشرف وقم، ابتداءً من تأسيسهما ولغاية اليوم؛ حيث يعتبر الكاتب أن الحوزة العلمية النجفية هي العاصمة العلمية الدينية التاريخية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي منذ 1000 عام، مستعرضاً تاريخ هذه المدينة العلمية التي شكلت قاعدة علمية فقهية وتراثية وكلامية واعتقادية، وحاضنة اجتماعية ـــ سياسية للمذهب الشيعي أو للطائفة الشيعية، منذ بدايات نشأة الحوزة في زمن الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (المعروف بشيخ الطائفة)، ولغاية مرجعية السيد علي السيستاني في عصرنا هذا.
ولعدم التقليل من أهمية حوزة قم، وما تمثله هي الأخرى من وجود نوعي مميز في تاريخ الاجتماع الديني الشيعي؛ يتحدث الكاتب عن هذه الحوزة العلمية الرصينة، وعن أصالتها وعمقها التاريخي، إلى أن تحولت بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، وإقامة نظام إسلامي وفقاً للمذهب الجعفري، إلى مؤسسة علمية منظمة كبرى، حيث أرسيت فيها نهضة علمية نوعية وكمية مميزة، وباتت تضم مئات الجامعات والمدارس والمعاهد الدينية، ومراكز البحوث والتبليغ والمكتبات العامة وقاعات المؤتمرات والمؤسسات الخدمية، وباتت قريبة من الهيكليات والأنساق والجامعات الأكاديمية، مع احتفاظها بنكهة الدرس المسجدي التقليدي، وهي في مضمونها تشبه أُطروحة السيد محمد باقر الصدر في “المرجعية الرشيدة”.
وفي الفصولِ اللاحقة يغوص الكاتب أكثر فأكثر في محاولاته الجدّية المميزة لإعادة بناء قواعد مُحكمة ورصينة لمنظومة المرجعية الشيعية، وهو ما أسماه بـ “إعادة مأسسة منظومة المرجعية الشيعية”. وهو عنوان الفصل السادس، الذي تحدث فيه عن قضايا المرجعية التي تلامس واقع التفكير والممارسة الاجتماعية الشيعية فردياً وجماعياً، حيث أن تغيرات الحياة وتطورات الواقع العام تقتضي ـــ كما يرى الدكتور المؤمن ـــ تغيرات في المفاهيم وتحولات في المصطلحات والبنى التقليدية القائمة، ولهذا بدأت تظهر مع مرور الأيام مفاهيم وكلمات ومصطلحات جديدة تهدف إلى توضيح مدلول المرجعيات المعاصرة؛ فظهرت مصطلحات المرجعية القائدة والمرجعية الرشيدة والمرجعية المؤسسة وغيرها.
وحاول الكاتب في هذا الفصل التركيز على اقتراحه بتأسيس مجلس أهل الخبرة، والمؤلف من الحكماء والخبراء وأهل الاختصاص، الذي يتمحور اختصاصه على اختيار المرجع الأعلى، وتقديم المشورة له؛ مؤكداً على ضرورته وأهميته النوعية، وشارحاً كيفية عمله التي تقوم على تقديم المشورة لكل مكونات النظام وتفرعاته الدينية والاجتماعية والسياسية والمالية، على أن يتم الأمر عبر قواعد نظرية وأدوات إشراف عملية.
ولا ينسى الكاتب أنْ يمر على شروط اختيار المرجع الأعلى، وبالأخص منها شرط الأعلمية، مطالباً بضرورة ترشيد هذا الشرط في ظل سرعة التحولات الزمانية والمكانية ومتطلباتها، وتراكم الموضوعات والحاجات المجتمعية والتنظيمية، وانحصار خيار الأمة بتفعيل وظائف المرجعية الأخر، وأيضاً في ظل ما قد يظهر من إشكاليات وأسئلة موضوعية حول مفهوم المرجعية ذاته. ولعل من القضايا المهمة الجديدة التي نظّر لها الدكتور المؤمن في هذا المجال هو شرط الكفاءة وشرط المقبولية العامة، وقارب في إطارهما علاقة الكفاءة الشخصية والنفسية بواجبات المرجع وصلاحية، وهو ما أطلق عليه تسمية سايكولوجيا الفقيه.
وفي الفصل السابع من الكتاب، وتحت عنوان: “عناصر قوة الاجتماع الشيعي”؛ أكد المؤلف أنّ الاجتماع الديني الشيعي يحظى بعناصر قوة وثبات واستمرار، لا يحظى بها أي نظام اجتماعي ديني آخر، إسلامي وغير إسلامي، وعناصر القوة هذه ليست وليدة العصر الحاضر، بل إن بداياتها وقواعدها قديمةٌ قِدم النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي، الذي وضع أُسسه في عصر غيبة الإمام المهدي، سفيره الأول الشيخ عثمان العمري، بعد العام 874م، ثم رسّخ دعائمه السفراء الثلاثة الذين أعقبوه، إضافة إلى جهود الفقهاء المؤسسين الأربعة: الشيخ الصدوق، الشيخ المفيد، الشيخ المرتضى والشيخ الطوسي؛ إلا أنّ تطور هذه العناصر ونمو تفرعاتها وتبلور مضامينها الفكرية والشعائرية والطقسية؛ احتاج إلى قرون كثيرة، لتخرج بالصيغ التي عليها الآن. ويرى الدكتور المؤمن إن أهم عناصر قوة الاجتماع الديني الشيعي في وقتنا الحالي، هي: القضية المهدوية، المرجعية الدينية، ولاية الفقيه، التماسك المجتمعي الديني، عالمية النظام الشيعي ووحدة مساراته، الاستقلال المالي الديني، المراقد والمزارات، شعائر الإمام الحسين، إيران، السلطة السياسية، التنظيمات السياسية وجماعات المقاومة.
وبعد أن يفصِّل في كل واحد من هذه العناصر الإثني عشر؛ يؤكد بأن خصوم الشيعة يعملون على ضرب هذه العناصر، بهدف القضاء عليها أو إضعافها، تميداً لزعزعة النظام الاجتماعي الديني الشيعي برمته.
وفي الفصل الثامن، يبحث المؤلف “إشكاليات الهوية الشيعية”، وأهم الأسئلة والرهانات الفكرية والسياسية والتنظيمية التي تُثار في وجه الاجتماع الديني الشيعي المعاصر، بوصف الهوية الشيعية قوة جامعة بين مختلف مكونات الشيعة ومرجعياتها؛ فيتناول موضوع هوية الشيعي بين المذهب والقومية والوطن، وغيرها من القضايا المتصلة بالتعدد والتنوع الوطني والمناطقي والقومي وقواعد التمايز والتكامل وموقف الفكر الشيعي منها. ولعل هذا الفصل هو أحد أكثر الفصول تنظيراً وأهمية.
أما الفصل التاسع، وهو آخر فصول الكتاب، فيخصصه لاستشراف مستقبل النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وشكل المرجعية الشيعية بعد غياب السيستاني والخامنئي، ويبدأ الفصل بالحديث عن مفهوم المرجعية المطلقة، ويذكر نماذجها الأربعة في القرن العشرين، وهي مرجعيات السيد أبي الحسن الإصفهاني والسيد حسين البروجردي والسيد محسن الحكيم والسيد أبي القاسم الخوئي.
ثم يتركز البحث على واقع مرجعيتي كل من السيستاني والخامنئي، ونفودهما الديني وجغرافيا مقلديهما، ويستشرف المشهد بعد غيابهما، ويذكر أسماء الفقهاء المحتملين الذين سيحلون محل السيستاني والخامنئي بعد رحيلهما. وهنا؛ يرى الدكتور المؤمن ان المشهد المرجعي النجفي سيكون صعباً بعد رحيل السيد السيستاني.
وفي نهاية الكتاب يصل المؤلف إلى جملة استنتاجات وخواتيم على صعيد محاولته تقديم وعي علمي وفكري بحقائق الاجتماع الديني الشيعي، تتعلق بمحاولته تأسيس علم اجتماع ديني شيعي، والأصول التشريعية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي وعناصره القوّامة، ومستقبل المرجعية الدينية والحوزة العلمية، إضافة الى حلول لإشكالية تزاحم الهويات لدى المجتمعات الشيعية،
كمقدمة للاندماج المتبادل بينها وبين الدول التي ينتمون إليها. ويشير الدكتور المؤمن في الاستنتاجات أيضاً، الى أهمية إعادة النظر في محددات وشروط المرجعية، وتحديداً المرجعية العليا، والتي هي أهم نقطة قوة في الاجتماع الدين الشيعي، بالنظر للتطور النوعي والكبير الذي شهده ولايزال يعيشه الواقع الشيعي، والذي يصفه الدكتور المؤمن بــ “العصر الذهبي”، وما يرافقه من تحديات كبيرة ونوعية أيضاً؛ إذ يرى أن طريقة اختيار المرجع الأعلى في كل من حاضرتي النجف وقم؛ لا تزال تقليدية متوارثة منذ مئات السنين، وترتكز الى شرط الأعلمية في الفقه والأصول فقط، وهو شرط لا يرقى الى حقائق الواقع وتحدياته، ويرى أهمية طرح مفهوم الأصلح والأكفأ.
إشكاليات بحاجة الى تفكيك وحلول:
بعد مراجعتي لفصولِ هذا لكتاب “الاجتماع الديني الشيعي” للباحث د. علي المؤمن، وهو كتابٌ نوعي وفريد، في تناوله لقضيةٍ غاية في الأهمية وشديدة الصلة بالواقع، وهي قضية “النظام الاجتماعي الديني الشيعي”، كما أسماه، والذي أجادَ فيه الكاتب –حقيقةً- في ضبط مسارات الاجتماع الديني الشيعي، كما أسماه، والذي أجادَ فيه الكاتب –حقيقةً- في ضبط مسارات الاجتماع الديني الشيعي، وتبيان معالمه ومعاييره ضمن انتظامات تاريخية ومحددات فكرية ممنهجة، بحيث بدتْ لنا آلياتُه ومحدّداته التي مَنهجَها الكاتب، كالسدّ الذي ينظّم (وينسّق) تدفق مياه النهر الجارف، خالقاً حوله بساتين وظلال وارفة من الخضرة والجمال؛ أقول: بعد مراجعتي للكتاب يمكن أن أؤكد أنّ الكاتب، وهو الخبيرُ المتمرِّس في كل ما يتعلق بثقافة أهل البيت وتراثهم وتاريخهم وامتداد حركتهم؛ نجَحَ بمهارة في بناء أسس أولية لمذهب اجتماعي ديني شيعي جديد، هو قائم وموجود بالقوة في صلب التاريخ الشيعي الطويل والممتد في حركة التاريخ العربي والإسلامي، بل وتمكن الكاتبُ من القبض على أسس منهجية لدراسته وتوثيقه، ليس في ذاكرة ووجدان التاريخ والناس، وإنما في عقول الباحثين والمفكرين ومختلف مواقع المؤسسة المرجعية، بما يفرض ضرورة إعادة التركيز على ما سلّط عليه الضوء من مفاهيم واصلاحات وتحليلات نوعية، والتوسع في إبرازه وتظهيره والعناية المنهجية والعملية به.
ولكن؛ كل ما تقدم لا يمنعُ أن نضعَ بعض الملاحظات والرؤى الفكرية السياسية، وهي بطبيعة الحالة قد لا تكون ملاحظات على الكتاب ذاته، بقدر ما هي إضاءات وإشعاعات فكرية متنوعة وهواجس معرفية أطلقها الكتاب من حوله، فيما أثارته وأشعلته مضامين هذا الكتاب من أفكار ورؤى وتأملات وتحليلات، وبما يمكن أن يفتحه في الذهنية الفكرية للمنظومة الاجتماعية الشيعية من منافذ وإمكانات وتصورات فكرية وتاريخية، يجب مناقشتها بجدّية.
1- حولَ ولايةِ الفقيه:
شكّلت ولايةُ الفقيه مبدأً جوهرياً في منظومة الاجتماع الديني الشيعي، خاصّة بعد النهضةِ الإسلامية الشيعية الخمينية في إيران، والتي استقرأتُ أنّ الكاتب يعتبرها “أسّ” منظومة الاجتماع الديني الشيعي المعاصر؛ فمن المعروف أنّ ولايةَ الفقيه مبدأ “ديني-سياسي” موغل في الموروث الثقافي والديني الشيعي، وليست مبدأً طارئاً أو مستجداً، وسبقَ لها أن فتحت مجالات لأسئلةٍ كبرى، وأثارت هواجس معرفية وغير معرفية، وحازت وما تزال تحوز، على نقاشات فكرية واسعة في الدائرة الفقهية الشيعية وحتى غير الشيعية، خاصة بعد تحولها لواقع قانوني-سياسي ملموس ومطبّق في نظام سياسي معاصر، مشهود له بالرصانة النظرية والنجاح العملي.
وكان من الطبيعي أنْ لا تحظى التفاصيل النظرية والتطبيقية لمبدأ ولاية الفقيه -رغم التأكيد على كونه أصلاً أساسياً في منظومة التفكير الديني والسياسي الشيعي- بإجماع كل العلماء وإمضاء كل الفقهاء، لتبقى مثار جدلٍ ونقاش وسجالات فكرية-سياسية بين علماء ومفكرين ونخب مثقفة، ممن توزعوا بين مؤيد لها ومعارض، ولكن النقاش والاعتراض المرجعي والنخبوي الثقافي والسياسي على تفاصيل مبدأ “ولاية الفقيه”، بقي قائماً في تطبيقاتها الفقهية السياسية؛ الأمر دفع بعض العلماء والمراجع الكبار لبناء رؤى واجتهادات فقهية-سياسية”، مقابلة لولاية الفقيه، كولاية الأمة على نفسها، وليس ولاية الفقيه على الأمة، رغم ما قد يتصف به المرجع من شرائط الفقاهة والعلم والمعرفة والعدالة.
وكنت أتمنى على المؤلف لو أنه توسَّع فكرياً ومنهجياً في حديثه عن مبدأ “ولاية الأمة على نفسها”، وأعطاه حقه من النقاش والتحليل، مثلما تحدث بتوسع واستدلال تحليلي عن مبدأ ولاية الفقيه؛ فالفكرةُ باتت لها جماهيرها وحضورها القوي بين صفوف الناس والنخب المثقفة.
وأنا أتصور هنا أنه إذا كان مبدأ ولاية الفقيه قد شكّل النظرية الناضجة الأهم، على المستوى العملي، لإعادة بناء قدرات المجتمع الإيراني، والصيغة الأكثر توافقاً وانسجاماً لتماسك الوطنية الإيرانية-الدينية؛ فإنّ ذلك لا يعفي أصحابها والمنظّرين لها من الوقوف النقدي أمام الإشكاليات المثارة حولها اليوم، ومحاولة التجديد فيها، والإجابة الجادة عن هذه الإشكاليات.
2- الهويةُ المذهبية والاندماجُ الوطني:
عندما نتحدث عن اجتماعٍ ديني شيعي؛ لا بد أن تكون السياسة حاضرةً فيه بقوة على مستوى العلاقة بين المراجع والناس بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم وخلفياتهم واتجاهاتهم، والعلاقة مع مؤسسات الدولة، وآليات التعاطي معها على كل المستويات والأصعدة.
وهنا تبرز إشكالية كبرى حول مضامين القيم والأفكار والاعتقادات والقناعات الفقهية للناس، والتي قد تتعارض مع الاجتماع المدني السياسي الذي له أفكاره ومؤسساته وقوانينه المتعارضة مع قناعات الناس المنتمين الى لاجتماع الديني الشيعي؛ إذ كيف يتصرفون ويعيشون ويمارسون حياتهم الطبيعية في بلدان لا تدينُ بمبادئهم الولايتية الشيعية التي تربط بين السياسة والدين ولا ترى أدنى الفوارق بينهما؟!..
هل يلتزمون بقناعاتهم واعتقاداتهم الخاصة، أم بأفكار وقيم وعادات وقوانين البلد التي قد تتناقض وتختلف معهم؟!.. هل يقلدون مَرْجعاً يعيش في بلد آخر وله سلطة (ولايتية) على بلده، حتى لو أفتى بما يعاكسُ عيشهم وانتماءهم لبلدهم ومسقط رأسهم؟!.
طبعاً؛ لا تزال هذه الإشكالية قائمة في الاجتماع السياسي العربي والإسلامي، ولم ينجح الفقه السياسي الشيعي الحديث، المرتكز في التطبيق الفقهي.
-السياسي الإيراني المعاصر على عقيدة أو مبدأ ولاية الفقيه، في حلها وحسم الجدل واللغط السياسي والعملي حولها، لأننا شهدنا حدوث صراعات وتضارب مصالح فيما يتصل بمفاعيلها في كثير من البلدان. وقد رأينا وعشنا كثيراً من تداعيات هذه الإشكالية، ولاحظنا كيف كان للشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين، في دعوته الشيعة للاندماج في مجتمعاتهم ومشاريع بلدانهم الوطنية، بعيداً عن أية أفكار ورؤى ومشاريع مذهبية أو طائفية خاصة، قصب السبق في معالجة بعض الآثار السلبية لتلك القضية، لناحية منع حدوث اضطرابات دينية مذهبية وسياسية في بعض دول الخليج والمنطقة التي تتواجد فيها الطائفة الشيعية كأقلية دينية.
وقد رأينا وعشنا كثيراً من تداعيات هذه الإشكالية، ولاحظنا كيف كان للشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين، في دعوته الشيعة للاندماج في مجتمعاتهم ومشاريع بلدانهم الوطنية، بعيداً عن أية أفكار ورؤى ومشاريع مذهبية أو طائفية خاصة، قصب السبق في معالجة بعض الآثار السلبية لتلك القضية، لناحية منع حدوث اضطرابات دينية مذهبية وسياسية في بعض دول الخليج والمنطقة التي تتواجد فيها الطائفة الشيعية كأقلية دينية. مع التأكيد على أنّ مفهوم الأقلية هنا يثير الكثير من الشجون السياسية والاجتماعية، ولهذا جاءت الدعوة ليتم التعامل معهم كمواطنين، لهم حقوق وعليهم واجبات، وليس كأتباع منهج ديني يتم تسييسه بين وقتٍ وآخر، طلباً للمصالح والأغراض الخاصة لهذه الدولة أو تلك أو هذا المحور أو ذاك.
وهذا ما أجاد الباحث الدكتور علي المؤمن في تسليط الضوء عليه، عندما تحدّث ليس فقط عن مسؤوليات مرجعيات الشيعة ونخبها، بل أيضاً عن ضرورة ((أن يؤمنَ السنّة وأنظمتهم بأنّ الشيعة مواطنون مثلهم، ولهم حق المشاركة السياسية والقانونية الكاملة في دولة المواطنة والقانون، وأنّ من حقّ الشيعي أن يكون في أي موقع في الدولة والمجتمع دون تمييز طائفي)).
وما نأمله أن يبقى تظهير وتأطير هذا الاجتماع الديني الشيعي في تأسيسه ومؤسساته ومرجعياته بعيداً كونه حالة عصبية اجتماعية ومذهبية جديدة، في مواجهة عصبيات أخرى، تتصارع وتتقاتل على الرأسمال الرمزي والقيمي للأمة، وعلى الإنتاج المعنوي الروحي، إذا صح التعبير، وهو ما أكد الدكتور علي المؤمن في كتابه.
3- الدورُ العملي للمرجعياتِ الشّيعيّة:
التعدديةُ في المرجعيات الشيعية أمرٌ راسخٌ وثابت منذ زمن بعيد، وهذه النقطة هي من أهم عناصر قوة وحيوية ومستقبلية المؤسسة المرجعية الشيعية، في سياق تفاعلها مع الآخر المختلف، وانسجامها البنيوي مع متطلبات التشارك المجتمعي الإنساني الحضاري معه، حيث أنه في ظل هيمنة أجواء التطرف والتعصب والتناحر في كثير من مواقع ومفردات هذه الأمة؛ يجب أن تتحرك المرجعيات بوعي ومسؤولية لإرساء دائم وأسس خط الاعتدال والتفاهم والحوار الدائـم، وتركيز ثوابت ينعقد عليها الوفاق الوطني في داخل البلدان خاصة المتنوعة منها بعيداً عن قناعات وسلوكيات التميز والمحورية وادعاء امتلاك الحقيقة. وأتصور أن من أهم عناصر قوة المرجعية الدينية الشيعية، على مستوى الداخل المجتمعي، هو أن تجد لنفسها امتدادات حقيقية عملية في حركة العمران الروحي والعملي، خصوصاً وأنها مرجعية اجتماعية وسياسية وعملية، تتدخل في كل شيء، توجيهاً وإشرافاً، وحتى أوامرياً (في كثير من الحالات)، وإذا لم يكن الأمر على هذا النحو الحيوي؛ فعن أية عناصر قوة نتحدث، خاصة في ظل وجود مجتمعات شيعية تعيش حالات من الفوضى وعدم الاستقرار المجتمعي والسياسي والقانوني.
إنّ قيمة الفكر والمبادئ والنصوص، تكمن في أن تتحول عند المجتمعات إلى واقع حي معاش وملوس، وعلى نحو مسؤول، في سلوكها وعلاقاتها وتعاملاتها، وفي تطبيقات العدالة بينها، وإحساسها الحقيقي بالانتماء الفاعل والحقيقي لمرجعياتها، ليس نظرياً وكلاميا فقط، بل عملياً ونهضوياً وعمرانياً.
وأعتقد أن بعض تطبيقات هذه المفردات والعناصر، التي يعتدّ بها الكاتب، ويعتبرها عناصر قوة الاجتماع الديني الشيعي، لا تزال مثار جدل وإشكال فكري وتاريخي وحتى معرفي، بالنسبة لكثير من المراجع والمثقفين الشيعة وغير الشيعة، وما قد يعتبره الكاتب عنصر قوة، قد يعتبره غيره نقطة ضعف بطبيعة الحال، وليس موضع إجماع حتى بين صفوف كثير من علماء ومراجع ومفكري ونخب الشيعة، قبل غيرهم من نخب وعلماء آخرين ينتمون لمدارس فكرية وسياسية ودينية أخرى.
من هنا؛ أتصور أن أهم نقطة قوة في منظومة الاعتقاد الشيعي الاجتماعي التاريخي أن الشيعة كلهم متفقون كلياً على الأساسيات، المتمثل بتراث آل البيت وعقائدهم وقيمهم وشخوصهم، وتحوّلهم لقيم كمالية راقية للأخلاق والفضائل والرسالة الإنسانية، وهي ما يسميه السيد محمد باقر الصدر ((المُثُل العليا المرتفعة)).
4- نواةٌ لمذهبٍ اجتماعي شيعي إسلامي:
هل يمكنُ لنظرية الدكتور علي المؤمن في كتابه هذا ودراساته الأُخر عن الاجتماع الديني الشيعي، أن تشكل نواةً لمذهب اجتماعي شيعي إسلامي؟!، مع الإشارة الى أن ما نعنيه هنا بمفهوم أو مصطلح “مذهب اجتماعي شيعي” هي مجموعة الأفكار والمفاهيم الدينية الإسلامية الشيعية، التي يمكن الوصول إليها من خلال تحليل نصوص القرآن والأحاديث الشريفة الوارد على لسان النبي والأئمة، ومجمل “كلاميات” ونصوص العلماء والفقهاء، فيما يتعلق بالمسألة الاجتماعية، وضرورة العمل على تطويرها وتجديدها، بحيث يمكن أن تُقدّم كإطار فكري مفاهيمي لمنظومة إسلامية على الصعيد الاجتماعي، لتكون معبّرة عن “المذهب الاجتماعي الشيعي الإسلامي” في غاياته المتمثلة بإقامة العدل بين الناس، ورد المظالم وفصل الخصومات، وإحقاق الحقوق، وتوجيه الاهتمام بالعلوم ووسائل التقدم والرقي الحضاري، والسعي الحثيث لإقامة التكافل الاجتماعي داخل المجتمع.
ما تقدّم يحتاج إلى بيئة نظرية أو مرجعية نظرية وتشريعية معيارية ضابطة، يمكن من خلالها صياغة المفاهيم والتنظير للمذهب الاجتماعي الإٍسلامي، وهذا ما لاحظناه لدى أحد كبار المراجع الإسلاميين المتنورين، وهو السيد محمد باقر الصدر، الذي أكد على أن معالجة موضوعة “المذهب الاجتماعي في الإسلام”، يجب أن تستند على مؤشرات عامة تعبّر عن روح “الشريعة” ومقاصدها، يطلق عليها الصدر مصطلحات عدة، هي: اتجاه التشريع، والهدف المنصوص لحكم ثابت، والقيم الاجتماعية التي أكد الإسلام على ضرورة الاهتمام بها.
وفي نهاية هذه المراجعة السريعة لكتاب “الاجتماع الديني الشيعي“؛ أرى أن الباحث التجديدي الدكتور علي المؤمن؛ قدّم نتاجاً فكرياً أكاديمياً غنياً ورائداً، فضلاً عن مقاربات حافلة بالوقائع والتفاصيل والحيثيات التاريخية والوصفية التحليلية؛ ما يدل على امتلاكه عقلاً موسوعياً مسلّحاً بأدوات معرفية فعالة وشديدة التأثير، وعلى أنه قابض على عدّة معرفية فعّالة مكّنته من التجوال العقلي واصفاً وشارحاً ومحللاً في محطات وامتدادات تاريخ المسلمين الشيعة وواقعهم، منذ بدايات تأسيس اجتماعهم الديني قبل نحو أربعة عشر قرناً وحتى يومنا هذا. على أمل أن تشكِّل النقاط التاريخية والإضاءات الفكرية التي أثرناها؛ إضافة نوعية لبعض مفاصل كتابه الفريد، ومدخلاً لنقاشات جدّية في هذا المجال، خدمةً للفكر والمعرفة الحقيقية.
لنبيل علي صالح.
تنوير_موقع حزب الحداثة.