الجمهورية الرقمية.. أو السيطرة على الإنترنت
قائمة التغيرات الإيجابية التي أتاحها العصر الرقمي كثيرة جداً. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، المكتبات الرقمية التي باتت متاحة للناس حول العالم، وتطبيق تحديد المواقع الجغرافية على الهواتف الذكية الذي جعل التيه شيئاً من الماضي، والتطبيب عن بُعد، وغيرها الكثير.
غير أن الأمر لا يخلو من مثالب وسلبيات أيضاً، وما أكثرها. فاليوم، عندما نفكر في الإنترنت، نستحضر على الأرجح جانبَها المظلم من قبيل: انتحال الهوية، وقرصنة المعلومات، وتفشي الأخبار الزائفة، ولغة الخطاب التي تسهم في تقويض الديمقراطية الأميركية وتآكلها، والضرر الذي تلحقه وسائل التواصل الاجتماعي بنفسية الشباب الهشّة. واللافت أن الجميع يتحدث عن المخاطر، لكن لا أحد تقريباً يقترح ما ينبغي فعله حيالها. وهذا ما يجعل من كتاب «الجمهورية الرقمية»، لمؤلفه المحامي والأكاديمي البريطاني جيمي ساسكايند، إضافةً قيّمةً ومرحباً بها. وفيه يبلي ساسكايند بلاءً حسناً في تشخيص المشاكل ووضع أصبعه على مكمن الداء، ويقدِّم طائفة من الحلول، وإن كان بعضها أكثر عملية من أخرى. ومثلما يوحي بذلك عنوان الكتاب، فإن ساسكايند يتبنى «الجمهورياتية»، وهي فلسفة مناقضة تماماً لـ«فردانية السوق».
ذلك أن الجمهوريين (بتعريف ساسكايند) «يعارضون الهياكل الاجتماعية التي تمكّن مجموعةً معينةً من ممارسة سلطة غير خاضعة للمساءلة أو المحاسبة، وتعرف أيضاً بالهيمنة، على الآخرين».
وعلى نحو غير مفاجئ، يرى ساسكايند هيمنةً في العالم الرقمي الحالي، حيث باتت بعضُ الشركات والمنصات الرقمية الكبيرة تسيطر على حيواتنا الرقمية، إذ تلتقط بيناتنا الشخصية وتخزّنها وتبيعها، كما تسهّل انتشار المعلومات الخاطئة والأفكار المفعمة بالكراهية، وتستخدم خواريزميات تميّز ضد بعض المستخدمين.
ويعتقد جمهوريو ساسكايند أن هذه المشاكل ليست نتيجة خطأ بعض الشركات والأفراد «الفاسدين»، وإنما نتيجةَ بنيةٍ فوقيةٍ برمتها. «إنهم يعترضون على فكرة شخص بسلطة مارك زوكربيرج، وليس زوكربيرج نفسه»، كما يشرح ساسكايند.
ساسكايند مراقبٌ نبيهٌ لمخاطر العالم الرقمي، ويكتسي تحليلُه أهميةً أكبرَ بالنسبة للقراء الأميركيين بالنظر إلى نظرة الأجنبي التي يحملها. إذ يجلب منظور مثقف أوروبي أكثر تشككاً في السوق والشركات مقارنة بكثير من الأميركيين، وأكثر انفتاحاً على الحلول الجريئة للمشاكل التي تخلقها شركات التكنولوجيا الكبيرة.
ومثلما يوضح ساسكايند، فإن مشكلة شركات التكنولوجيا الكبيرة لن تُحل عبر توجيه الانتقادات اللاذعة أو انتظار أن تبادر هذه الشركات بفعل الشيء الصحيح والصائب، ولكن ما نحتاجه هو قوانين جديدة تُرغم الشركات على أن تكون أقلَّ هيمنةً وأقل إضراراً بالأفراد والمجتمعات. وفي هذا السياق، يقترح ساسكايند مجموعةً من الحلول التي تشكّل الجزءَ الأهم من الكتاب.
والحق أن العديد من مقترحاته يمكن أن تَجلب فائدةً كبيرةً. ومن جملة ما يقترحه، مثلاً، أن يشترط الكونجرس الأميركي على شركات التكنولوجيا التحلي بقدر أكبر من الشفافية بشأن أعمالها الداخلية. كما أن من شأن عمليات فحص وتدقيق خوارزمياتها وعملياتها، على غرار عمليات التفتيش التي تستهدف المنشآت الصناعية، أن تسمح للمقنِّنين والمستخدِمين بفهم كيفية اشتغال منتجات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتقييم الضرر الذي قد تتسبب فيه.
ومن بين الأفكار الواعدة أيضاً إنشاءُ نظام شهادات ما قبل التسويق للمنتجات الرقمية. فمثلما ترخّص «إدارة الغذاء والدواء» لعقاقير قبل دخول السوق وطرحها في الصيدليات، فإنه يمكن لهيئة رقابة مراجعة البرامج الحاسوبية ومنتجات رقمية أخرى وتقييمها قبل أن الإفراج عنها لضمان امتثالها للقانون، وربما تقييم مدى توافقها مع قيم المجتمع.
غير أن بعض مقترحات ساسكايند تبدو مناسبةً للبرج العاجي أكثر منها للعالَم الحقيقي، ومن ذلك، مثلاً، اقتراحُه إقامةَ نظام واسع مما يسميه «جماهير صغيرة تداولية»، أي مجموعات من المواطنين العاديين التي تطوّر سياسات في مجالات مثل فرض الضرائب على معالجة البيانات.
ساسكايند يقترح كذلك نظاماً لتقنين الإشراف على المواقع الإلكترونية، بما في ذلك قوائمَ بالأشياء التي يجب على المشرفين القيام بها. ويقترح «آليات تأديبية» يمكن أن يخضع بموجبها المشرفون لغرامات أو عقوبات من قبيل الإقصاء والحرمان. وكما رأينا هذا الربيع في إخفاق المجلس الاستشاري التابع لوزارة الأمن الداخلي في محاربة المعلومات الكاذبة، فإن الأميركيين، على الأقل، لديهم مقاومة عميقة لفكرة تدخل الحكومة بشكل كبير في تحديد الخطاب المقبول. وحتى إذا كانت فكرة ساسكايند جيدة، فإن النبرة والإيحاءات «الأورويلية» كانت ستجعلها من دون شك غير قابلة للنجاح سياسياً، في الولايات المتحدة على الأقل.
وإلى ذلك، يلفت ساسكايند إلى أنه «كان أصغر من أن يستوعب طوباوية التسعينيات السيبرانية»، غير أنه يبدو في بعض الأحيان منخرطاً في نسخة من عشرينيات القرن الحادي والعشرين، ومثال ذلك رؤيته للجان من المواطنين تُصدِر مراسيمَ سياسية لإصلاح مشاكل شركات التكنولوجيا الكبيرة. ومع ذلك، يمكن القول إن الافراط في المثالية، في محاولة لتصحيح العالم، ليس هو أسوء شيء. ولا شك في أن كتاب ساسكايند الذكي يمكن أن يكون دليلاً قيّماً وثميناً بينما نتولى مهمة دفع تأثيرات الإنترنت الضارة والتصدي لها.
لمحمد وقيف.
الاتحاد_ موقع حزب الحداثة.