اصلاح ديني

الإلحاد بين حريّة الاعتقاد وعبثية الوجود (1).

إن الكتابة عن الإلحاد هي دوماً مسألة حرجة في إطار ثقافة دينيّة محافظة، تعطي للدين الأولويّة القِيَميّة في حياتها، ولا ترى الخير إلّا في نطاقه ومن منظوره، ما يجعل الإلحاد بنظرها أكبر الشرور، وهذه الحراجة تزداد في وقت كوقتنا الراهن تمرّ فيه البلاد بأزمة كارثيّة مستفحلة، ما يجعل الكتابة عن هذا الموضوع تبدو وكأنّها اليوم تماماً خارج أوانها.

مع ذلك، يمكننا ألّا نوافق على مسألة التوقيت هذه، فنحن اليوم، ونحن حتّى تحت نار هذه الأزمة الحارقة، التي ندرك تماماً أنّها انفجرت نتيجة تضخم واقع مأزوم على كافة الصُعد، علينا عدم إرجاء الحديث عن أيّ جانب من جوانب هذه الأزمة، التي يلعب فيها العامل الديني وقضيّة الحريات دورين جوهريّين خطيرين، وعلى العكس من ذلك علينا تعرية كلّ عيوب وعورات واقعنا الاجتماعي، وعدم مُداراتها أو التستر عليها أكثر، وهذا الكلام نفسه يُقال حول مشكلة وقوع الإلحاد داخل نطاق المحظور، وإحاطته بالخطوط الحمراء العريضة، التي لا يجب أن يبقى أيّ خط منها قائماً في وجه النقاش العقلاني وحريّة الفكر، إذا أردنا لمجتمعنا التعافي الإنساني الحقيقي.

وهذه المقالة تناقش موضوع الإلحاد من مُنطلق عقلاني، وهي لا تبتغي الدفاع عن الإلحاد، فالقضيّة هنا لا تدخل في نطاق الدفاع عن الإلحاد أو الدين، فهذا أمرٌ يخصّ أهل كلّ منهما، ولكنّها قضيّة حقوق وقيم إنسانيّة أولاً وقضيّة فكر عقلاني ثانيّاً.. وتأسيس لمجتمع إنساني أفضل ثالثاً، وهذا ما ستنطلق منه وتركّز عليه هذه المقالة.

لماذا يلحد الإنسان؟

طَرْحُ هذا السؤال يشبه تماماً السؤال “لماذا يؤمن الإنسان”؟

في كلتا الحالتين يمكن الإجابة بأنّ القضيّة هي قضيّة قناعة، قناعة حقيقيّة متكوّنة لدى الإنسان، وهو لا يتعمد اختيارها، ولا يمكنه أن يكذب فيها، لأنّ الأمر ليس إراديّاً، فلا أحد يستطيع أن يتخذ قراراً بأن يكون مثلاً ملحداً اليوم، ومسيحيّاً غداً، ومسلماً بعد غد، أو ما يشبه ذلك، فالقناعات لا تتشكّل وفقاً لإرادة الإنسان، ولا تتبع قراراته، وفي الوقت الذي يكون فيه مؤمن ما مقتنعاً بوجود الله، وبأنّ دينه هو الدين الصحيح، فالملحد مثله تماماّ مقتنع أيضاً بأنّ الله غير موجود، وبالتالي فلا دين صحيح، وهذا ما يقوله له عقله بصدق، وهو لا يتعمّد الإلحاد وإنكار وجود الله، والملحد لا يتعمّد نفي وجود الله، فتعمّد النفي يعني أن يكون هذا الشخص مقتنعاً أساساً ومسبقاً بوجود الله، ثم يقرّر التنكر لله ونفي وجوده رغم قناعته بأنّه موجود، ولو حدث مثل هذا الأمر، لما جاز لنا عندها نعت هذا الشخص العجائبي بـ “الملحد”، لأنّه مقتنع أصلاً بوجود الله، أي مؤمن بوجود الله، ولوجدنا أنفسنا أمام شخص غريب الأطوار، يؤمن بالله، ثم ينكر وجوده معاً، ويكون في مثل هذه الحالة إمّا شخصيّة فصاميّة تؤمن وتلحد بنفس الوقت، أي تعتقد بالشيء ونقيضه معاً، كرؤية شيء ما أبيض وأسود اللون بنفس الوقت، وهذا قطعاً ليس من صفات العقل السليم، أو سيكون هذا الشخص مدعيّاً طوعيّاً للإلحاد، وهذا أيضا ما لا يفعله عاقل، لأنّ العاقل الذي يؤمن بوجود الله.. لا يقوم بإنكار وجود الله، فهذا في مثل هذه الحالة يضعه في موضع تحد، ومواجهة مع الله، ويجعله متقصّداً معاداة الله، وهذا خيار لا يفعله العاقل، الذي لا يخوض عادة تحد أو مواجهة مع شخص آخر أقوى منه، فكيف إذاً يعادي ويجابه قوة أعظميّة يؤمن بوجودها كالله؟!

بناء على ذلك يمكن القول أنّ الملحد هو كالمؤمن تماماً في موضوع القناعة، شخص صادق ومتصالح تماماً مع نفسه، وهو عندما يعلن إلحاده يعبّر عن قناعته الحقيقيّة، وعما هو مقتنع بصدق أنّه حقيقة وصحيح، ولو ادّعى هذا الملحد الإيمان، لناقض عندها قناعاته، ولكذب على نفسه وسواه.

وهكذا نصل إلى خلاصة مفادها أنّه إذا كان الله موجوداً، فليس الملحد مذنباً في أنّه لم يستطع بما لديه من قدرة عقليّة -أنعم بها الله نفسه عليه- أن يدرك حقيقة وجود الله، وهو لم يتعمّد إنكار وجود الله وعداوته، أمّا إن كان الله غير موجود، فعندها يكون الملحد هو المصيب، والمؤمن هو المخطئ، ولا يكون ثمّة من يحاسب لا هذا ولا ذاك على الإلحاد أو الإيمان.

لذا يجب على المؤمن أن يفهم تماماً أنّ الملحد ليس شخصاً فاسداً أو شريراً أو وضيعاً لأنّه عدو الله، ولكنّه شخص سوي صالح تماماً يتّبع مثل المؤمن نفسه ما يعتقده حقيقةً وصحاً، إلّا أنّه يختلف في طريقة تفكيره عن المؤمن، ونفس الكلام أيضاً ينطبق على المؤمن المختلف الذي يتّبع دينا آخر، يعتقده بصدق الدين الصحيح.

هل هناك أنماط مختلفة من الإلحاد؟

بكل تأكيد.. نعم!

فهناك “إلحاد فكري”: وهو يقوم على أرضيّة فكريّة متينة، تتكوّن بعد تفكير معمّق، واطلاع واسع لدى صاحبه، يصل بنتيجتهما إلى خلاصة أنّ الله غير موجود، وهذا الإلحاد هو إلحاد الفلاسفة والعلماء والمفكّرين.

وهناك “إلحاد إيمانوي”: وهو لا يختلف عن الإيمان الديني التقليدي، فكما يؤمن المؤمن في هذا الإيمان بالله بشكل تسليمي، ولا يؤسّس قناعته بوجود الله على أساس منطقي وحجج عقليّة متينة، يكون الملحد الإيماني مثله تماماً، ويتصرّف بشكل مماثل لتصرّفه، فـ(يؤمن) بأنّ الله غير موجود بشكل تسليمي أيضاً، ودون أن يؤسّس قناعته الإلحاديّة هذه على أُسس منطقيّة وعقلانيّة كافيّة.

كما أنّه هناك “إلحاد ردّي”: وهذا النوع من الإلحاد لا يقوم على أرضيّة منطقيّة عقلانيّة قويّة كالإلحاد الفكري، ولا ينشأ بشكل تسليمي غير واع كالإلحاد الإيمانوي، ولكنّه يأتي كردّة فعل على الأديان، إمّا بسبب خلافاتها وصراعاتها التي لا تنتهي، أو بسبب الصورة المتناقضة أو غير المقنعة أو المُنفّرة التي تقدّمها لله، أو بسبب سوء المتديّنين كممارستهم للعنف التكفيري، ورفض المختلف بسبب التعصّب والتطرّف، أو استغلالهم الدين لتحقيق مكاسب مُغرضة غير نزيهة.

هل هناك تعصّب إلحادي؟

ولو عدنا إلى أنماط الملحدين المذكورة في الفقرة السابقة، لأمكننا القول أنّ النموذجين الثاني والثالث قابلان تماماً للتعصّب والتطرف، فالملحد الإيمانوي هو تماماً مثل المؤمن الديني من الناحية الذهنيّة، ويمتلك مثله “ذهنيّة إيمانيّة” ترى في إيمانها وحده الحقيقة الكاملة، ولا يقبل بأيّ اختلاف معه أو عنه، ومثل هذه الذهنيّة لا يصعب عليها الوقوع في التعصّب والتطرّف؛ أمّا الملحد الردّي الذي يتشكّل لديه الإلحاد بسبب ما يراه من مساوئ وأمور سلبيّة في الأديان ولدى أتباعها، فمن الطبيعي أن تتكوّن لديه ردّة فعل سلبيّة ضدّ الأديان، وهي قد تكون شديدة أو مبالغاً فيها أحياناً، وبذلك يمكنه أيضاً أن يتحوّل إلى متعصّب أو متطرّف في موقفه من الأديان والمتدينين، لكن ماذا عن الإلحاد الفكري أو العقلاني؟ هنا الأمر يختلف فالعقلانيّة لا تتعصّب ولا تتطرّف، وهي تقبل بالاختلاف وتحترمه، وتعترف للآخرين بحقّ الاختلاف.. كما تعترف لهم- وهذا جدّ مهم- بحقّ الخطأ، فالعقل يدرك تماماً أنّه كعقل يخطئ ويصيب ويختلف مع سواه من العقول، وهذا كلّه من طبيعة العقل، وهو مهم أيضاً لإدراك الحقائق.

الإلحاد كوصمة اجتماعيّة:

في الثقافات الدينيّة.. تربط الذهنيّة الدينيّة بشكل كامل جلّي بين الخير والإيمان بالله، وليس هذا فحسب، بل بالإيمان بالله وفق طريقة محدّدة بشكل صارم تتمثّل بالدين الذي تعتنقه هذه الذهنيّة، وهنا يصبح كُلّا من الملحد والمؤمن بدين آخر خارج دائرة الخير الذي تعرفه، وتعترف به هذه الذهنيّة، فعلى سبيل المثال بالنسبة لمسلم تقليدي أو مسيحي تقليدي، الهندوسي وثني كافر، لأنّه يتّبع ديناً باطلاً برأي كلّ منهما، وكذلك الشيوعي الذي يتّبع الفلسفة الماديّة الملحدة، وهنا بالنسبة لمثل هذين المؤمنين التقليديّين، لا تُعطى قيمة هامّة للصفات والمزايا الإنسانيّة الحسنة التي يمكن أن يتحلى بها الهندوسي أو الشيوعي، فالتقييم في الذهن الديني لا يتمّ قطعاً على أساس إنساني.. بل على أساس ديني، ومن لم يكن ذا دين صحيح، فلا قيمة حقيقيّة له كإنسان.. أيّا كان بالمعيار الإنساني.

في مثل هذه الثقافة.. يصبح الإلحاد بكلّ تأكيد وصمة كبرى، هذا إذا لم يصبح “جريمة” جللة يعاقب عليها بأقصى شدّة، والملحد بنظر هذه الثقافة يعتبر عدواً لله، وهذا يُعتبر ذروة الشر وأقبح العيوب.

العقل السليم يحتجّ بقوّة على المتديّنين:

ردّاً على تلك المواقف.. سيقول العقل السليم لأيّ مؤمن، من أيّ دين أو معتقد كان، يؤمن بوحدانيّة صحّة دينه أو معتقده، ويُكفّر الآخرين سواءً كانوا مُلحدين أو مختلفين عقائديّاً: هل أقمت دينك أيّها المتديّن على أساس عقلي.. أي هل توصّلت إلى أنّ دينك هو الصحيح بناء على إعمال العقل والبحث العقلي في مسألة وجود الله وصحّة الأديان؟ إن كنت قد فعلت ذلك.. فما هو ذنب شخص آخر فعل الشيء نفسه، وتوصّل إلى أنّ ديناً أو مُعتقداً آخر هو الصحيح، وما هو فضلك أنت عليه، ومن طبيعة العقول أن تختلف رغم حسن الغايات؟ هل تشكّل قناعتك دليلاً دامغاً على صحّة معتقدك.. وبطلان معتقده؟ وهل لديك دليل قاطع على ذلك، لماذا لا يكون رأيه هو الصحيح، طالما أنّ كلّ هذه الاختلافات هي نتائج عمل عقول تجتهد وتبحث عن الحقائق؟ أمّا إن كنت قد اتبعت دينك ليس على أساس العقل، كأن يكون أتاك عن طريق النقل، أي عن طريق الوراثة، فموقفك العقائدي في غاية الضعف، وليس لديك أيّ دليل عقلاني على صحّة ما تتّبع، ولا فضل لك على سواك ممن تعتبرهم كفرة أو ضالين من أتباع المعتقدات الأخرى الذين أيضاً اعتنقوا أديانهم اعتماداً على النقل والوراثة الثقافيّة، أمّا من يتّبع أيّة فلسفة أخرى سواء كانت ماديّة أو روحيّة مختلفة عن دينك، فهو في موضع يتقدّم ويعلو عليكم جميعاً كمتديّنين إيمانويّين بمعيار العقل لأنّه يعتمد على العقل ويتّبع العقل.

الإلحاد حقّ من حقوق الإنسان:

ممّا تقدّم يمكننا ببساطة أن نقول أنّه أيّاً كان الأساس الذي تقوم عليه القناعات والأفكار، سواء كانت قائمة على العقل أو النقل، فلا أحد لديه الدليل الكامل على صحّة معتقده أو فكره، وبناء على ذلك فليس لديه أيّ حقّ أن يفرض عقيدته أو فكره على الآخرين، ويجعل من نفسه حكماً أو حاكماً عليهم باسم الحقّ والصحيح؛ هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية على كل صاحب فكر أو عقيدة يعتبرهما أصح وأفضل من غيرهما أن يعي أنّ الآخرين يفكّرون أو يعتقدون مثله، وكلّ منهم بدوره يرى أو يعتقد بأنّ رأيه أو عقيدته هما الأصح والأفضل، فكيف نحلّ مثل هذا الخلاف؟! ونتفادى العواقب التي يمكن أن تنجم عنه؟

قد يقول البعض بالحوار.. وهذا طرح إيجابي بالطبع، ومع ذلك فليس من ضامن قطعاً أنّ الحوار ينهي الخلاف، هذا عندما يتحاور المفكّرون العقلانيّون أو حتّى العلماء النظاميّون، فكيف إذاً عندما يكون من يفترض بهم الحوار مؤمنين متشدّدين، وهذا ما يثبته التاريخ والواقع الراهن؟ إذاً يبقى حلّ وحيد فقط، وهو الاعتراف بالاختلاف وقبول الاختلاف، وهذا يعني أن يقبل كلّ صاحب معتقد أو رأي المختلفين عنه كمساوين له تماماً، والمساواة هنا شرط لازم تماماً، وإلّا فلن يكون الاعتراف والقبول حقيقيّين، وسيبقى التمييز والغبن قائمين.. وقادرين على إثارة النزاعات.

هذه المساواة تعني أن يعترف كلّ طرف لسواه بحقوق تامّة غير منقوصة كالحقوق التي يعترف بها لنفسه، وإن كان يعتبر حيازته لمعتقد أو رأي وتمسّكه بهما وحبّه واحترامه لهما ودفاعه عنهما حقاً من حقوقه، فعليه أن يعترف بمثل هذا الحق لكلّ مختلف في الرأي أو العقيدة تماماً ودون أيّ نقصان، سواء كان مختلفاً في الدين أو حتّى ملحداً، وبعد أن تتمّ هذه المساواة في ميدان الرأي والمعتقد بين جميع المختلفين، فبعدها لا يبقى أيّ أساس أو مبرر للتمييز بينهم على أساس الرأي والمعتقد في ميادين الحياة الأخرى، التي يجب تطبيق المساواة الكاملة عليها.. وإقرار حقوق متساوية للجميع فيها.

وهكذا نصل إلى خلاصة جازمة لا يمكن فيها إلّا الاعتراف بحقّ الملحد في أن يكون ملحداً، وبوجوب تساويه مع المتديّن في كلّ شيء بلا استثناء.

ومن الضروري هنا الانتباه إلى قضيّة هامّة، وهي أن اعتراف المؤمن بحقّ الملحد في الإلحاد، هي قطعاً ليست اعترافاً بالإلحاد نفسه، بل اعترافاً بحق الشخص الآخر بأن يكون لديه رأيه أو معتقده الخاصين، مهما كانا مختلفين، وحتّى لو كانا إلحاداً، وبالطبع.. العكس بالعكس، وهذا الاعتراف المُتبادل بين المتديّن والملحد، هو ليس اعترافاً بالدين أو الإلحاد نفسيهما من المختلفين فيهما، بل هو حصراً اعتراف بحقّ الآخر في حريّة واختلاف المعتقد والرأي بدون أيّة قيود جهوية على هذا الحقّ، الذي يجب ألّا يؤطّر إلّا في إطار الخير الإنساني، وعدم التسبّب بأيّ أذى بالمعيار الإنساني وحده.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate