متى يكون الدين منارة للأخلاق؟
في موضوع الدين، كما في غيره، علينا أن نعوِّد أنفسنا على التفريق بين العام والخاص، نعني هنا ضرورة التفريق بين الدين بوجه عام؛ دين الإنسان العاقل والأخلاقي، وبين دين بعينه كالمسيحية أو الإسلام أو البوذية أو غيرها؛ لأن الدين بوجه عام نابع من الطبيعة الأخلاقية للإنسان؛ أي من قدرته على التمييز بين الخير والشر، وبين الفضيلة والرذيلة وبين الحق والباطل وبين النافع والضار.. إلخ، ومن ميله الدائم إلى تحقيق الخير والفضيلة والحق في حياته الشخصية والاجتماعية، وصراعه الدائم ضد الشر والرذيلة والباطل، المبثوثة كلها في العالم والمتجذرة فيه، كما نجدها في الظلم والاستغلال والاستعباد والإفقار والتهميش، وفي الحروب والنزاعات التي تثيرها التعصبات والأطماع.
إنّ ما لا يصدر عن حريتنا وإيمان قلوبنا واستقلال ضمائرنا لا يكون إلا زيفاً ونفاقاً يشوهان طبيعتنا
هذا الصراع بين إرادة الخير والفضيلة والحق وبين إرادة الشر والرذيلة والباطل هو صراع من أجل سعادة الإنسان ورخائه وعاقبته، وليس من ضمانة لذلك سوى المجتمع الذي يحفظ كرامة أفراده ويصون حريتهم وحقوقهم، قبل الدولة والقانون؛ لأن المجتمع هو من ينتج الدولة ويحدد وظائفها ووظائف السلطة، ويسنّ القوانين عن طريق من يندبهم وينتخبهم لهذه الغاية. “فإذا كان هناك شيء يحق للإنسان الحديث أن يفخر به على سائر البشر السابقين فهو إيمانه العميق بالحرية”؛ أي بأنه كائن حر، لا يدين بقدرته على التفكير بنفسه، ومن ثم، إعطاء قيمة خلقية لأفعاله أو لمصيره الخاص، لأي جهة كانت مهما علت أو بسطت هيمنتها على العقول. فإنّ ما لا يصدر عن حريتنا وإيمان قلوبنا واستقلال ضمائرنا لا يكون إلا زيفاً ونفاقاً يشوهان طبيعتنا الأخلاقية وإرادة الحق والخير والفضيلة في نفوسنا. التفريق بين الدين بوجه عام وبين أي دين خاص، هو الذي يفتح أفق التسامح واحترام عقائد الآخرين والاعتراف بحقوقهم وحرياتهم، على اعتبار أنّ للأديان جميعاً غاية مشتركة هي السموّ بأخلاق الأفراد والجماعت إلى المثل الأعلى الإنساني. لكن التسامح، بمعنى الاعتراف المتبادل بين أتباع العقائد المختلفة، لا يتحقق إلا بتفريق ضروري آخر بين الدين الخاص، كالإسلام على سبيل المثال، وبين رجال الدين من فقهاء وخطباء ومفسرين وعلماء أصول .. إلخ، على اعتبار أنّ هؤلاء، مع كل الاحترام لأشخاصهم، ليسوا قيمين على الدين، وليسوا حراس الإيمان، ليسوا من يمنحوننا الإيمان، وليسوا وسطاء بيننا وبين الله، ومن ثم، ليسوا أوصياء على العقول والضمائر. إنهم أشخاص مثلنا، يجتهدون لأنفسهم، لكن من غير المعقول؛ بل من المعيب جعل الدين مهنة أو حرفة، كالتجارة، فهذا يتناقض مع قدسية الدين، ومع حرية المؤمنين والمؤمنات بالطبع.
من المعيب جعل الدين مهنة أو حرفة كالتجارة فهذا يتناقض مع قدسية الدين وحرية المؤمنين والمؤمنات.
لجاد الكريم الجباعي.
حفريات _موقع حزب الحداثة.