اصلاح ديني

حول مسيرة الإصلاح الديني.

المحرك الأساس للنهوض من الواقع المستكين هو الجدل القائم بين الفكر والاكتشافات التي تأتي ضمن المغامرة العقلية الهادفة إلى كسر الجمود، وتقويض المُسلمات والمُتعاهد عليه ،من القيم المعيقة للانطلاقات الجديدة لذا فمن الطبيعي أن تسبق الفتوحات الجغرافية عملية تثوير المفاهيم الفكرية في أوروبا .

وبالتالي توالت المغامرات إلى أنْ نشأت رؤية مختلفة للكون والحياة كذلك فإنَّ السؤال عن دور الدين والمفاهيم اللاهوتية في العالم الجديد قد صار الشغل الشاغل بالنسبة لرواد الحركة الإصلاحية إذ بدأت السجالات بشأنِ مايحتاجُ إلى التجديد في المنظومة العقائدية كما احتدَّ الجدلُ حول حدود السلطة الدينية.

هذا ناهيك عن الاختلاف في الآليات المُختارة لصياغة منظور مغاير لتأويل النصوص الدينية والانقلاب على الأنساق التقليدية لاشكَّ أنَّ ذلك يؤدي إلى الاستقطاب في الرؤى والمواقف وتتباينُ المسارات إنْ لم تصطدمْ في المحطات المفصلية التي يشهدُ فيها الفكرُ مخاضاً مصيرياً ويكونُ الصراع على أشده قبل أن يتخذَ العالم الحديث ملامحه مايعني أنَّ الانتكاسة أمرُ محتملُ وقد لايطابقُ حساب الحقل حساب البيدر دائماً ، يتناولُ الكاتبُ النمساوي ستيفان زفايغ هذا الموضوع في مؤلفاته السيرية خصوصاً فيما نشره عن حياة المصلح الهولندي إيرازموس بعنوان “من يقطف ثمار التغيير؟” كذلك في كتابه الموسوم ب”عنف الديكتاتورية” حيثُ يستعيدُ في العنوان الأخير سيرة مؤسس المذهب البروستانتي لافتاً إلى التكوين الشخصي لكالفن وصرامته وزهده وانعكاس كل ذلك على آرائه ونزوعه لإقصاء مخالفيه.

طبيعة العصر

الأهم في محتويات سيرة الاثنين هو الإبانة عن طبيعة العصر كان إيرازموس شاهداً على إنشقاق لوثر وثورته على روما باعتبارها مركزاً للكاثوليكية على رغم تقاطع الإرادة الإصلاحية بين لوثر وايرازموس لكن الأخير قد رفض العنف وسلك منحى مختلفاً في مناشداته الإصلاحية يشيرُ زفايغ إلى أنَّ إيرزاموس كان يُمثلُ روح عصره ويحظى بمكانةٍ تؤهله لممارسة سلطةٍ وذلك بفضل رأسماله المعرفي ومازاد من مجده هو عزوفه عن الحراكات التحريضية لذا فإنَّ الهدوء الذي قد طبع شخصيته وسطَ الصراعات التي سادت في عصره قد مكنهُ من المراقية بعين بصيرة دون الوقوع في مطب التحزبات ومن المعلوم أنَّ تحقيق الاستقلال الفكري يتطلبُ وعياً بخلفية الإشكاليات التي تزيدُ من حدة التنابذ الفكري عليه فإنَّ استعادة زفايغ لشخصية ايرازموس كانت متزامنةً مع تصاعد التيارات الشعبوية في أوروبا كأنَّه أراد بذلك التأكيد على مغبة الانجرار وراء حمية الشعارات والأفكار المُهلكة، وهذا المقصد يتبين أكثر عندما يقارنُ زفايغ بين ايرازموس ولوثر،والأخير كما هو معلوم قد ذاع صيتهُ بعدما علق بيانه الإصلاحي على باب الكنيسة في فيتنبرغ وما أكسبه اعجاب الشعب الألماني هو مناهضته لصكوك الغفران ويذكرُ مؤلف “عالم الأمس” ما كان يعانيه الفلاحون وأهل المدن نتيجة استغلال الخوف المتأصل لدى البشر وتحوله إلى أموال عبر باعة صكوك الغفران ، وكان إيرازموس بدوره معارضاً للمُقايضة الخادعة وقهر الإنسان من خلال توظيف المفردات الدينية وأطلقَ النكت ساخراً من حملاتِ ظاهرها يطالبُ بالغفران وحقيقتها ليست إلا تضليلاً للعقل لكن اللهجة الساخرة لاتعبئ طاقات ولاتؤدي إلى إحداث التغيير بقدر ما يولد منها الرضا السلبي ، لذا فإنَّ انخراط لوثر في المعترك مباشرة والتعبير عن آرائه بكلمات موجزة “لايملكُ البابا العفو إلا عن العقاب الذي فرضه هو “ قد جعلهُ ضميراً ناطقاً للشعب.

وقد صرح إيرازموس بأنَّ كل الأخيار يحبون صراحة لوثر غير أنَّ مؤلف “مديح الحمق” قد أدرك بفراسته بأنَّ مغالاة لوثر وعنفه الثوري سيكلفُ الناس ثمناً باهظاً والأدهى من ذلك فإنَّ مشروع الاتحاد بين الكيانات الأوربية الذي كان موضع اهتمام إيرازموس قد أصبح في عين العاصفة.وذلك لأنَّ العامل الديني قد أثار الخلاف بين المكونات المجتمعية وحلَ الانقسام بين روما وأتباع الكنيسة اللوثرية. فالعالم برأي إيرازموس ماهو إلا وطن مشتركُ وأبدى استغرابه من النزاع المُحتدم بين ألمان والأنكليز والفرنسيين طالما تجمعهم ديانة واحدة كما أنَّ اللغة اللاتينية يجبُ أن تحل مكان اللغات التي تفصلُ بين الشعوب الأوروبية إذاً قد تطلعَ إيرازموس إلى المثال الأوروبي العابر للأوطان وهذه الأفكار كلها قد وردت في كتابه “شكوى السلام” إلى جانب ماذكر آنفاً فإنَّ زفايغ يرصد مراحلَ من حياة إيرازموس دارساً تركيبة شخصيته إذ اعترف ايرازموس بخوفه الشديد من الموت والمرض وكان يميلُ إلى التقشف أكثر ويختار مأكله بعناية زاهداً من المخالطة بالنساء.ومع مضي العمر أراد كسب الأمان والعزلة من أجل الاعتكاف على العمل ولولا هذا الإهتمام الشديد بالصحة والتنسك من الملذات لما جسده الهش عبورَ الأزمنة القاسية ، تفادى إيرازموس تسلم الوظيفة والسلطة واستهجن رغبة الناس لمتابعة الألعاب الدموية ورأي في ذلك مخلفات من الهمجية.والملمح البارز في حياة هذا المفكر الإصلاحي هو افتتانه بالمعرفة والكتب وهو لم يرد المال إلا لشراء الكتب.سبقَ إيرازموس غيره في المطالبة بالعودة إلى ينابع الإيمان الحق مستنكراً استئثار الرهبان بمعرفة النصوص المقدسة وحياة المسيح وأكد على ضرورة دراية الشعب بالإنجيل والتعاليم الدينية فهو قد أقدم على ترجمة الكتاب المقدس مجدداً إلى اللغة اللاتينية.

السمو الإنساني

لايكتفي ستيفان زفايغ برواية سيرة المفكر الهولندي وايراد مقتبسات من مؤلفاته وآرائه بل يحاولُ بناءً على مايقدمهُ تحليل شخصية إيرازموس وتسليط الضوء على البعد النفسي لدى الجماهير وبالطبع إن الهدف من هذا المسعى هو الإجابة على سؤالٍ لماذا لم يقترن إسم ايرازموس بالحركة الإصلاحية مع أنَّه قد اخترق بمؤلفاته سداً قائماً أمام تيار الفكر؟ يعزوُ زفايغ تواري اسم ايرازموس وراء أسماء أخرى إلى شخصيته التواصلية والسلمية وهو لم يتخذ موقفاً عنيفاً على غرار لوثر وكالفن وتسفينغلي صحيح قد أعلن ايرازموس بأنَّ جوهر التقوى لايحققه التمسك بالطقوس الخارجية وحده بل سريرة الإنسان هي تحسمُ درجة إيمانه لكن ذلك لم يشف غليل العصر الهائج وكان مبدأُ ايرازموس هو أن السلام غير العادل أفضل من أكثر الحروب عدالةً والأمر لايتطلبُ عناء التفكير حتى ندرك بأنَّ مدلول هذا الشعار لايوافق مزاج الجماهير المتوثبة.ومايدعو إلى القلق بالنسبة لإيرازموس هو التعصب والعنف ، وفهم بأنَّ وبال الحرب يقعُ على أولئك الذين ليس لهم دور في اشتعالها.واللافتُ في ايرازموس هو تفطنه إلى أن الغريزة البدائية لاتهدأ بكلمات لطيفة لذا صرف ذهنه إلى نظرائه المفكرين متوسماً منهم تحمل المسوؤلية مردداً بأنَّ ما يحصلُ عليه المرءُ بالتواضع أكثر مما ينالهُ بالعنف، وأسرَ ايرازموس لتسفينغلي قائلاً “كل مايطالبُ به لوثر هو ماناديت به من قبل لكن ليس بمثل هذا العنف ولابلغةٍ تتصيد التطرف” فعلاً كان لوثر حاداً في طبعه ، وما أن راح كثيرُ من الفلاحين ضحية تصاعد العنف حتى يقولَ بصوت صريح “دماؤهم في عنقي” يشار إلى أنَّ المحاولات الرامية لدفع ايرازموس إلى حلبة الصراعات قد باءت بالفشل ولم يتخندق ضد أي طرف مع أنَّه قد تم ترويج الشائعات عن حظر كتبه بقرار الكنيسة في روما فيما انهال لوثر بتصريحاته المشحونة بالغضب على خصومه معترفاً بأنَّه قد قضى بالهلاك على كل الفلاحين الذين شاركوا في الثورة .طال هجومه ايرازموس وطالب بعدم قراءة كتبه متعهداً بأنَّ يقتل هذا الشيطان بقلمه مثلما قتل سابقاً مونتسر.

مايضمهُ هذا الكتاب من حفريات في حيثية مرحلة تاريخية قد انتهت بحرب ضروسة بين أتباع المذهبين يؤكدُ حساسية تدشين عملية الإصلاح الديني لأنَّ الدين كما يكونُ عاملاً لتحقيق الوحدة بين الشعوب بقطع النظر عن الاختلاف العرقي واللغوي ربما قد يفجرُ صراعاً حتى بين أتباعه عندما يتخذُ الخلاف على تأويل مقاصده مسلكاً متحزباً وهذا ما نتابعهُ في المقال القادم حول شخصية كالفن واستهدافه لخصومه بسلاح التزندق.هنا نشير إلى أنَّ مصادرة كالفن لحرية الرأي والتأويل ونصب المحرقة لأصدقاء الأمس في الجنيف تذكرُ بالصراع بين الفرق الإسلامية لاسيما التصادم بين المعتزلة والحنابلة.

لكه يلان محمد.

المدى_موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate