حداثة و ديمقراطية

“الحق ” في الكذب السياسي.

لم تكن الفلسفة قط مجهوداً مجانياً، بل ظلت دوما مساهمة في حل معضلات الوجود الإنساني، الفردي والجماعي، من خلال التفكير في قضايا الشأن العام، وفي العلاقات والقيم التي تصل بين الذوات في الفضاء العمومي والمجال التداولي. ولما كانت السياسة هي فن تدبير الشأن العام، والمجال الذي تختلط فيه القيم الإنسانية بمضاداتها، فقد آل الفلاسفة على عاتقهم، منذ القدم، التفكير في السياسة وفي الآليات التي يتوسل بها السياسي في الإقناع واستمالة الجمهور، وخاصة منها الكذب وما يتصل به من خداع ومكر وإغواء وإغراء. فكيف يستقيم إذا فعل ممارسة الكذب في المجال السياسي؟ هل الكذب ذاتي بالنسبة إلى السياسي أم عرضي يمكن تلافيه؟ هل هو دلالة على قدرة السياسي على الخلق والإبداع أم أنّه دلالة على قدرته على التحيّل والخداع؟، هل الكذب إخفاء للحقيقة أم تدمير لها؟ أم أنّه سطو عليها وإلغاء لها؟، وهل يمكن الاستغناء عن الكذب أم أنّه ملازم للذات ولا انفكاك لها عنه؟

تلك بعض الأسئلة التي يطرحها البروفيسور محمد المصباحي جاعلا منها مدخلا لرصد طبيعة ممارسة الكذب في المجال السياسي، ومن ثم استجلاء الأبعاد الفلسفية لهذه الممارسة، وتعرّف بعض الإشكالات التي تثيرها، باعتبارها مبحثا خاصا يسم الفلسفة المعاصرة ويطبعها بطابعه الخاص. وتفعيلا لهذه المعطيات، يقرر المصباحي، بادئ ذي بدء، أنّ التفكير في دلالات الكذب وإشكالاته في المجال السياسي هو تفكير قديم العهد نلفي له أثرا في كتابات أفلاطون وأرسطو السياسية، بيد أنّه صار في الفكر المعاصر مفهوما نظريا ولغزا محيرا ما انفك يشغل بال الفلاسفة والمفكرين حتى قال ألكسندر كويري إنّ الإنسان المعاصر لم يكذب قط بالشكل الذي يكذب به اليوم. ولما كان الكذب ملازما للذات الإنسانية وضروريا لوجودها وحياتها، لأنّ حياة بدون كذب هي حياة باردة خالية من الاختلاق، وتنقصها القدرة على الحلم والإرادة الدفينة في تشكيل العالم وفق هوى الذات في سعيها نحو الاكتمال، لما كان الأمر كذلك، وكانت السياسة هي فن تحقيق الممكن، فإنّ الكذب بالنسبة إلى السياسي أمر حيوي وجزء بنيوي في العمل السياسي ما دامت “السياسة بطبيعتها فعل كاذب”؛ لكن، هل الكذب ذاتي بالنسبة إلى السياسي أم عرضي يمكن تلافيه؟

1-الكذب والسياسة: أيّة علاقة؟

لا شك أنّ الكذب من اللوازم الذاتية للفعل السياسي، بل إنّه أداة من أدوات تحققه واكتماله، والدليل على ذلك عناية المفكرين منذ القدم بفنون الكذب السياسي حتى إنّه كان موضوعا – كما سبقت الإشارة إلى ذلك – لمقالات عند أفلاطون وأرسطو وسان أغسطين وميكيافليي، ولا ضير في ذلك ما دام السياسي بطلا في الحروب الكلامية وانتصاره قائم أساسا (إلى جانب الحكمة والمعرفة) على ممارسة الخديعة والمناورة. فالسياسي، كما قال ميكيافيلي، لا ينتصر فقط بالقوة ولكن بالحيلة والخديعة أيضا. ثم إنّ السياسة حلبة خطباء، ومجال الأخذ والرد، وتقوم أساسا على استمالة الجمهور واستقطاب الرأي العام لتحقيق الغلبة على الخصوم والاستحواذ على الفضاء العمومي. ولما كان الناس، كما يقول نيتشه، لديهم ميل فطري للانخداع، فإنّ السياسي لا مفر له من التوسل بحسن الخطاب، وبلاغة القول، وبصنوف من الكذب ومشتقاته من مكر ودهاء لاستثارة خيالهم، وتأجيج آمالهم، وشحذ هممهم، ولنا خير مثال على ذلك في كذبة “الحاج فرانكو” التي وظفها فرانكو لاستمالة المغاربة إلى جانبه في الحرب الأهلية الإسبانية.

2-الكذب علاقة فاسدة بين القول والحقيقة

إنّ الكذب السياسي يقوم أساسا على الأقاويل الخطابية والجدلية ولا يقوم على الأفعال والبرهنة العقلية ما دام لا يتوجه إلى الخاصة بل إلى العامة؛ وبالتالي، فهو في أساسه قول تخييلي يقوم على علاقة فاسدة بين القول والحقيقة.

ولما كان الوصول إلى الحقيقة يقتضي احتذاء طريقين: طريق التعريف الذي يقود إلى تصورها، وطريق البرهان الذي يفضي إلى التصديق بها، فإنّ الكذب لا يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة، بل إلى السطو عليها وإلغائها. فمن خواص الكذب أنّ الكاذب عارف بالحقيقة لأنّ الجاهل، كما يقول سقراط، غير قادر على الكذب، ولأنّنا لا نكذب في ما نجهله كما يقول سارتر. إنّ الكاذب، كما يقول أفلاطون، هو من يخفي شيئا في فكره ويقول شيئا آخر أو هو من لا يؤمن بما يقوله كما يقول إيمانويل كانط.

الكذب السياسي إذن نفي للحقيقة، ولا يرتد هذا النفي إلى أنّ فعل السياسة يقوم على الإغراء والحيل القولية فقط، بل يرتد كذلك إلى عدم عناية السياسي بالحقيقة، لأنّ الحقيقة بطبيعتها، كما تقول حنا أرندت، لا سياسية. ثم إنّ الحقيقة لا تنفك في جوهرها – في ما يقول نيتشه – عن الكذب؛ فهي ليست، حسبه، إلاّ أوهاما وأخطاء وأكاذيب نسي الإنسان أنّها كذلك. فالحقيقة، إن صح هذا المعنى، كذب منسي أو أكذوبة تحولت بفعل التكرار والحبكة المجازية إلى حقيقة. ولعل هذا ما عبر عنه النازي جوبلز – ربما مستوحيا نيتشه – حين قال: “يكفي أن تكرر نفس الأكذوبة مرات عديدة وعلى نحو متواطئ لتتحول إلى حقيقة”.

3-الكذب علاقة فاسدة بين القول والفكر

إذا كان الكذب علاقة فاسدة بين القول والحقيقة، فإنّه، كذلك، علاقة فاسدة بين القول والفكر، لأنّ الكذب، في عمقه، قناع يرتديه السياسي لإقناع الآخر بفكرة ماكرة ودفعه إلى الاعتقاد بها والتصديق بحقيقة ليست بحقيقة، أو حقيقة يراد بها قول الكذب كما يقول جاك دريدا، وهو بصدد التعليق على بعض ما جاء في “اعترافات” جان جاك روسو، وفي رواية “خنث اليمين” لهنري توماس. وفي كل الأحوال، فإنّ الكذب ينطوي – كما لاحظ ذلك إيمانويل كانط وألكسندر كويري – على قصدية عندما يروم التزييف والتحريف والتضليل؛ ومن هنا، ضرورة الانتباه إليه وتمييزه عن الخطأ، لأنّ الكذب، كما يقول جاك دريدا، ليس هو الوقوع في الغلط وارتكاب الخطأ، لأنّنا لا نكذب لمجرد قول الخطأ، بل إنّ من يكذب هو من يسعى إلى تغليط الغير، حتى ولو قال الحق، ويمكن أن نقول الباطل دون أن نكذب، كما يمكن أن نقول الحق بغاية المغالطة؛ أي بممارسة الكذب، غير أنّنا لا نكذب حين نؤمن بما نقول حتى ولو كان باطلا.

لكن: هل الكذب تغليط للغير أم إلحاق للضرر به؟ وهل يمكن الحديث عن الحق في ممارسة “كذب فاضل” لا يُؤذي الغير ولا يُلحق به ضررا؟

لا شك أنّ هذا السؤال هو ما شكل مدار حوار فلسفي عميق بين الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ومجايله الفيلسوف الفرنسي بنيامين كونستان؛ فبينما يرى كونستان أنّ قول الحقيقة ليس واجبا إلا نحو من له الحق في معرفة الحقيقة، يذهب كانط إلى حد القول إنّ من يكذب على مجرمين يتعقبون صديقه المختبئ في بيته يكون قد ارتكب جريمة، لسبب وجيه، حسب كانط، هو أنّ قول الحق واجب أخلاقي، وفعل كوني غير مشروط، أما الكذب على شخص واحد، فهو كذب على الإنسانية جمعاء وتدمير لكرامتها.

خلاصة:

تأسيسا على ما سبق ذكره، يمكن القول إنّ الكذب في المجال السياسي هو أشبه ما يكون بخاتم جيجس في أصبع السياسي؛ فإذا كان استعمال الخاتم قد قاد الراعي جيجس، في الأسطورة اليونانية، إلى الاستيلاء على السلطة دون وازع أخلاقي، فإنّ استعمال الكذب السياسي عادة ما يقود السياسي إلى استمالة الجمهور وتكريس نفسه في السلطة دونما اهتمام بالحقيقة الأخلاقية لأنّ السياسة بطبيعتها لا أخلاقية.

لعمر التاور.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate