ثقافة

في سبيل تجديد المعرفة و الثقافة ..ما الذي يمنعنا من التأثير؟

“إذا بقينا في حدود ثقافتنا نستطيع أن نقول الكثير، سوى ما يهم البشرية، اليوم؛ أي الحرية والدولة والتاريخ والعقل …” عبدالله العروي.

كل من يقرأ مقولة عبدالله العروي هذه لا بد أن يساوره أسى عميق على نفسه، لغربته وغربة مجتمعه عن العالم وعن العصر. ثقافتنا غنية؛ لكنْ، ليس فيها ما يفيد العالم، اليوم؛ إذ ليس فيها ما يفيدنا اليوم أيضاً، إلا في حدود عالمنا الخاص، عالم النيام؛ بل عوالمنا الخاصة، أو في حدود استهلاكنا للثقافة، وكيفية هذا الاستهلاك.

إذا بقينا في حدود ثقافتنا نستطيع أن نقول الكثير سوى ما يهم البشرية اليوم؛ أي الحرية والدولة والتاريخ والعقل.

النوم موت صغير؛ وللنيام عوالمهم الخاصة جداً، أحلامهم وكوابيسهم، التي لا يشاركون فيها أحداً، ولا يشاركهم أحد؛ أما المستيقظون فلهم عالم مشترك، لا ينفي خصوصياتهم أو عوالمهم الخاصة، ولكنه مشترك بينهم؛ هو عالمهم جميعاً، وعالم كل واحد وواحدة منهم؛ هذا أمر لا جدال فيه؛ فهو عالمهم لأنهم متشاركون في إنتاجه، وإلا، لا يكون سوى عالم من أنتجوه فحسب، وحال الآخرين أشبه ما يكون بحال “الراكب مجاناً”، وربما خلسة، لا يهتم بالرحلة، لا يعنيه اتجاهها، ولا يعبأ بـ “الراحلة”. مدار الأمر كله، هو شكل حضورنا في العالم وفي العصر، وإلى أي مدى نحن مشاركون في إنتاج الأول، وثقافة الثاني.

ثقافتنا السائدة حبيسة في فضاءاتنا الخاصة، ونحن محبوسون في هذه الفضاءات، وفي ثقافتنا الحبيسة؛ أي إنّنا في محبس داخلَ محبس. لكن المفاتيح كانت في أيدينا دوماً.

في وقت من الأوقات، كان في ثقافتنا ما يفيد البشرية، فلمَ لا تفيدنا ثقافتنا اليوم، ولا تفيد غيرنا؟! هذا أولاً، وسؤال آخر، في ثقافات الأمم المتقدمة والمجتمعات المدنية الحديثة ما يهم البشرية كلها، اليوم، وما يفيدها كلها، فهل اهتممنا، وهل استفدنا؟! سؤالان حارقان، ولشدة ما هما كذلك لا بد أن يرد عليهما حراس التقليد بالاستنكار والإنكار والاستهجان وتثريب المتسائل، لإراحة الضمير.

“لا نستطيع إذن أن نقول شيئاً مفيداً على مستوى علم المفاهيم العام (حول الحرية والدولة  والتاريخ والعقل، وحول مفاهيم أخرى كثيرة، وعلى مستويات أخرى أيضاً)، في حين أنّ غيرنا، المشارك في نشأة ذلك العلم، يستطيع أن يقول شيئاً مفيداً عنا. وهنا تُطرح مسألة الاستشراق. كذلك إذا أدركنا نحن تلك المفاهيم مكتملةً استطعنا أن نفهم على الأقل بعض مظاهر مجتمعاتنا. فتكون المطابقة جزئية فقط، حتى في هذه الحال، إلا أنها مفيدة علماً وعملاً”.

إذا كان حكم العروي، الذي نتبناه، بلا تحفط، صحيحاً، أو  يتوفر على شيء من الصحة، (عدا الفائدة)، يلزمنا أمران: الأول هو أن نعي ضرورة تجديد معرفتنا وثقافتنا، وأن نقدم على ذلك، بلا تردد. إحدى الطرق الناجعة لتجديد المعرفة والثقافة هي الحوار الندِّي مع الآخر المختلف، ومن ثم، علينا أن نعي ضرورة “القطيعة مع ثقافتنا السائدة”، التي يغلب عليها الموروث كابراً عن كابر، وأن نُقدم عليها؛ أي على القطيعة، بلا تردد.

القطيعة التي نعني هي قطيعة معرفية وأخلاقية، بالتلازم الضروري بين المعرفة والأخلاق. والثاني هو أن نقبل محاولة من يشعر بالحاجة الماسَّة إلى تجديد فكره وثقافته، على الثقافات الحديثة، و”المفاهيم المكتملة” في هذه الثقافات، في مختلف فروع المعرفة والعلم، ولا سيما في العلوم الطبيعية والاجتماعية، التي تفتقر إليها مجتمعاتنا (وجامعاتنا أيضاً)، “لكي نفهم، على الأقل، بعض مظاهر مجتمعاتنا”، وهذا الفهم مقدمة ضرورية للمشاركة في نقد المفاهيم، والمشاركة في إعادة إنتاجها، وفي إنتاج غيرها.

فلعلنا لا نستطيع أن ننتميَ إلى العصر الحديث (ولو متأخرين جداً)، ولا نستطيع المشاركة في الثقافة الإنسانية الحديثة، إذا لم نفهم مجتمعاتنا، على حقيقتها أولاً، وأن نوقظ ملكة “التحسن الذاتي” في أنفسنا، ثانياً، وإذا لم ندرك إدراكاً واضحاً لا يشوبه لبس بأنّ “كل ما يحدث في العالم إنما يحدث لنا”، حسب تعبير ضارب للفيلسوف الروسي نيكولا ألكسندروفيتش برديائيف (1874 – 1948) ثالثاً. الانفتاح على الثقافة الإنسانية الحديثة ومفاهيمها المكتملة، بتعبير العروي، لا يفضي بنا إلى الحداثة إذا لم نفهم مجتمعاتنا، وننطلق من فهمنا لها إلى فهم العالم، ثم نعود إلى مجتمعاتنا معتدِّين بالمعايير العالمية (الإنسانية) للمعرفة والأخلاق.

لا نستطيع المشاركة بالثقافة الإنسانية الحديثة ما لم نفهم مجتمعاتنا على حقيقتها ونوقظ ملكة التحسن الذاتي في أنفسنا.

أحد وجوه القطيعة المعرفية والأخلاقية عن الثقافة السائدة، (لا الانقطاع عنها)، من جانب، وأحد وجوه “الخوف من الحرية”، (الخوف من النقد)، من الجانب المقابل، يتجليان في طريقة استهلاك الثقافة أو إنفاقها أو تصريفها أو ترجمتها إلى ممارسة نظرية وعملية .

وهذه؛ أي طريقة الاستهلاك، واحدة من طريقتين: إما المحاكاة والتقليد، خوفاً من الحرية، وقد أنفقنا عليهما أعماراً، وأطناناً من الورق والحبر والوقت والمال، وإما النقد والتجديد، وكسر التابوهات، وتجاوز الحدود، وليس من خيار ثالث أو طريقة ثالثة سوى التلفيق، الذي جرّبناه على مدى القرنين؛ التاسع عشر والعشرين، ولم يسعفنا في شيء.

لا يجوز أن يكون هناك أي محظور وأي خشية وأي توجس من الانفتاح المعرفي والثقافي على العالم، بغية الحضور الفاعل في العالم وفي العصر. فلا يمكننا أن نطور أنظمة التربية والتعليم، والمؤسسات الثقافية والإعلامية، مثلاً، قبل إنجاز قطيعة معرفية وثقافية وأخلاقية مع ثقافتنا السائدة، ومع السلطات، التي تحرسها.

جاد الكريم الجباعي.

حفريات-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate