اصلاح ديني

نظرية التجاوز المذهبي لا للعداء والوحدة والتقريب، نعم للتجاوز(4).

لقد تبلور كلا المذهبين بعد فترة طويلة من الإسلام، فكيف يدعي كل منهما أنه يمثل الدين الخالص بحق مع أنهما نتاج تاريخي؟

تحضرني المحاورة التي جاءت في كتاب “المراجعات” للسيد عبد الحسين شرف الدين مع شيخ الأزهر سليم البشري، وكيف أن كلا المحاورين أراد أن يثبت امتداده الطبيعي للإسلام، خلافًا للآخر الذي اعتبره حادثًا وطارئًا على الجماعة الإسلامية. ومثل ذلك ما صادف بعض السنة والشيعة أن حكوْا قصة مماثلة لتطيح بالآخر، وهي قصة “النعل المسروق”، إذ قدّموا للمقابل تهمة تلوح مؤسس المذهب بأنه سرق نعلاً في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ليثبتوا أنه إذا لم يكن زعيم المذهب سارقًا فمذهبه حادث أو متأخر عن ذلك العهد، ومن ثم لا قيمة له. مع أن الفكرة تصدق على المذاهب جميعًا دون استثناء، فزعماء الإيديولوجيا المذهبية جميعهم لم يصادف أحد منهم ان سرق نعلاً في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، لكنه سرق الدين فيما بعد.

لقد حذّر القرآن الكريم من الفرقة كتلك التي أصابت الأمم السالفة، وإذا بأمة الإسلام تقع بمثل ما وقعت به أخواتها من الأمم القديمة، فكل مذهب يرى نفسه أنه الفرقة الناجية خلافًا لسائر الفِرق، وأنه حلقة الوصل بالإسلام.

لا أدري ما هي العلاقة التي تربط المذهبية بالإسلام، ولا سيما أن الأخير قد نهى عن الفرقة أو التمذهب؛ فالمذهب مذهب والدين دين، والدين لله والمذهب للبشر، فالدين مذهب إلهي، والمذهب دين بشري؛ أي أنهما يفترقان، إذ يسعى المذهب لفهم الدين من دون عكس؛ فهو يجتهد، سواء في العقائد والأصول، أم في الفقه والفروع، رغم أن المذاهب لا تعترف بطابعها الاجتهادي على مستوى العقائد والأصول لتبرر لنفسها قطعية المسار وحقانية المسلك. فالمذهب يخطئ ويصيب، وبالتالي كان من الممكن نقده وتقويضه وإبداله بآخر، كما ننقد وننقض سائر أفكار البشر، في حين لا يجري هذا الحال مع الدين إذا ما اعترفنا بمصدره الإلهي. ويمتلك الطرفان، من الناحية المعرفية الإبستيمية، منظومة واسعة لما يدعى بأنها حقائق دينية، وهي في غالبها مقتبسة من الحديث المعنعن. وإن من يراجع أصول هذه الأحاديث وكيف تكونت، سوف يجد أنها تفتقر إلى القيمة العلمية لدى الطرفين على السواء، كالذي عرضناه في كتابنا “مشكلة الحديث”. فالشيعة يرون أن أهم كتاب لديهم في الحديث هو الكافي للكليني، وهو كتاب ضعيف الاعتبار لكونه لم يلتزم الدقة في النقل الصريح المباشر؛ فهو لا يشير إلى كيفية تعويله على الروايات، فيما إذا كان قد رواها بالسماع؟ وهل كان السماع مباشرًا أم غير مباشر؟ أم أنه نقلها من الكتب الموجودة في عصره عبر ما يطلق عليه “الوجادة” دون أن يبين ذلك؟ ففي الغالب إنه اعتمد في نقله على الوجادة، كما تدل بعض الروايات التي رواها بهذا الشأن.

أما أهل السنة، فيرون أن أهم كتبهم في الحديث هو صحيح البخاري ومن بعده صحيح مسلم، وكلاهما التزم السماع المباشر الصريح بداية السند، كالقول بكلمة حدثني أو أخبرني زيد أو عمر…إلخ، لكن كتب الصحاح في المقابل، بغض النظر عن سائر ما يعتريها من مشاكل قوية، تسقط هي الأخرى من الاعتبار فيما لو قارناها بفعل ما كان عليه كبار الصحابة، كالذي يشهد عليه أهل السنة أنفسهم. فلو تخيّلنا أن كبار الصحابة قد طال بهم العمر إلى عصر الصحاح، لما رضوا عن فعل أصحاب الحديث، ولاعتبروا ذلك من البدع التي لا يمكن السكوت عنها، لا سيما بعد طول الزمان وكثرة العنعنة، وقد كانوا لا يتقبلون الرواية بشاهد واحد، رغم اتصال عصرهم بعصر النبي، صلى الله عليه وسلم، فكيف الحال والعصور قد تعددت وتغيرت، والعنعنة زادت وكثرت، والحديث قد جرى عليه من التغيير الكثير، كما يشهد على ذلك أهل السنة أنفسهم.

على ذلك، فالمنصف يجد أن أهل السنة واقعون بحرج بين أمرين، أحلاهما مر، فإما أن جرأتهم تستدعي ضرب ما فعله كبار الصحابة عرض الحائط، كالذي يقوله الشيعة ويتهمون به هؤلاء الكبار، أو أنهم لا يتقبلون ما فعله أصحاب الصحاح ويعتبرونه من البدع التي لا يرضى بها الصحابة الذين هم أدرى بمقاصد الدين وسيرة النبي الأكرم. هذا هو الحرج المنطقي، ومع أن السنة لجأوا إلى قبول ما فعله أصحاب الصحاح وغيرهم من المكثرين في الحديث، ظنًا منهم أنه لا يمكن فهم الدين وإدراكه إلا من خلال هذه الأحاديث، وإلا اندرس الدين وانتهى، للتصور الذي يرى ضرورة اتصاف الدين بسعة القضايا وتفصيلها لمختلف مجالات الحياة، وأن التضييق يحصر الدين في زاوية تفضي به إلى الموت والاندراس، ومع أن السنة لجأت إلى هذا الخيار، لكنها ظلت تواجه السؤال الحرج، وهو لماذا كان الصحابة حريصين على تضييق قبول الرواية؟ فهل كان ذلك للتهمة التي يتهمهم بها الشيعة؟ أم لأنهم كانوا يخشون أن يتبدل الدين إلى آخر بفعل تكثير الرواية؟ وبالتالي لماذا كان الصحابة مضيّقين، في حين كان الأتباع موسّعين؟ هذا سؤال محرج لا نجد للسنة جوابًا شافيًا عليه، ولو أن الناس الواعين التفتوا إلى هذه الناحية مع غيرها من النواحي التي تضعف العمل بالأحاديث الواصلة إلينا لكان الموقف إزاء ما يقوله السنة والشيعة موقفًا يشوبه كثير من الشك والحذر.

ونجد أن الحديث الشيعي ساقط بحسب اعتبار الدقة، ولو بالحد الذي حاوله الحديث الصحيح السني، وأن الأخير ساقط بحسب اعتبار مسلك كبار الصحابة دون معارضة. وبالتالي فمن الناحية الإبستيمية لا يمكن الركون إلى ما يدعيه كلا الطرفين، فأحدهما انقلب فيما انحرف الآخر، وأن من اللازم الرجوع إلى الأصل كما كان عليه أهل البيت وكبار الصحابة، لا سيما أنه لم يردنا خلاف بينهم حول ما سبق، وأهل مكة أدرى بشعابها.

وعليه، فنحن أمام فهم جديد لا يعود إلى أحد من هذين المذهبين أو غيرهما من المذاهب الناشئة؛ فالفهم الجديد يبتعد عما اعتاد عليه كلا المذهبين من ظنون متهافتة، أو احتمالات يُظن بأنها تنمّ عن العلم، فهم يعتمدون في الأساس على النقل البعيد المعنعن، كما أنهم لا يضعون في الاعتبار احتمالات تغيّر المعنى، سواء بالنقل المعنعن، أم عند تجرّد النص عن الواقع، لا سيما وهم لا يولون الأخير أهمية في الفهم الديني كالذي كشفنا عنه في “جدلية الخطاب والواقع”. وبالتالي، ستكون المحصلة لدى الطرفين أن ما يسمى بالدين هو أوهام بأوهام، فلا دليل على ما يقولونه وينقلونه ويعدونه من الدين.

وهذا ما يجعلنا نعتمد على طريقة أخرى مباينة هي جوهر ما جاءت به الديانة الإسلامية، فالآيات على كثرتها تجدها في الأعم الأغلب تتناول مسائل هامة وقليلة للغاية دون تفاصيل، ولو كان من الدين ما ينقله المذهبان لكان من الأولى أن يشار إليه في القرآن بوضوح كوضوح ما أتى لأجله، بدل هذا الاختلاف والتنازع والصراع المخزي الذي لا ينتهي.

وأخيرًا نقول: إذا كان الإسلام يُحصر في اتّباع وتقليد رؤساء السنة والشيعة، فهل كان علي والحسن والحسين وأبو بكر وعمر: من أهل السنة أم الشيعة؟ فإن قلتم إنهم المؤسسون للفريقين قلنا فلماذا انقلبتم عليهم أو انحرفتم عنهم؟ بل لماذا ظلّ هدفكم التفرقة والتنابذ، وأحيانًا الاقتتال، مع أنكم تعدّون أنفسكم من أخلص أتباع هذا الدين، وهو يدعو بما لامزيد عليه من الصراحة والوضوح إلى المحبة والأخوة والتعاون والوئام مقصدًا من أسمى المقاصد والغايات؟

ليحيى محمد.

مؤسسة مؤمنون بالاحدود-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate