المرأة

قراءة في كتاب النساء والمعرفة والسلطة.

ممّا لا شكّ فيه أنّ بعض الأعمال الأكاديميّة والإصدارات العلميّة ضرب من الاختراق المعرفيّ والسياسيّ، لا لأنّها تنزاح عن مألوف الكتابة وسائد الممارسة البحثيّة فقط، بل لأنّها خروج واع عن الأطر البحثيّة الجامعيّة التي كبّلتها البيروقراطيّة المؤسّسيّة وارتياد لآفاق مستجدّة تمثّل بدائل ناجعة وفاعلة في تخطّي الجمود البحثيّ وحالة العطالة المريعة. قد تكون هذه فاتحة الانطباعات التي ترتسم في ذهن من يتصفّح العدد الأوّل الذي حمل عنوان “النساء والمعرفة والسلطة” من سلسلة “عدسات جندريّة” التي تديرها الأستاذة آمال قرامي والصادر عن دار ميسكيلياني للنشر. ومثلما يوحي به عنوان السلسلة وعنوان الإصدار الأوّل، فإنّ النساء بتنوّع سياقتهنّ الحاضنة ومجالاتهنّ الفاعلة واهتماماتهنّ المتشابكة وأدوارهنّ المعلنة والمنسيّة وتطلّعاتهنّ الفرديّة والجماعيّة يمثلن رهان هذه الجهود البحثيّة وموضوع التحليل والتشريح باتّخاذ موقع Location يزاوج بين الوعي النسويّ الملتزم والهمّ المعرفيّ الرصين.
وقد ضمّ الكتاب ثمانية مقالات صُدّرت بمقدّمة للأستاذة امال قرامي أشبه بعتبة نصّيّة أو خارطة تأطيريّة تيسّر لجمهور القرّاء تملّك تصوّر عامّ عن المقالات في موضوعاتها ومجالاتها ورهاناتها. لكنّ الطريف في المقالات أنّها على استقلالها الظاهريّ وتنوّعها البحثيّ تمثّل مجتمعة رؤية متقاطعة ومتراصّة تنطلق من خلفيّة فكريّة موحّدة ومشتركة هي الوعي بأدوار النساء في التاريخ ومقاماتهنّ الاعتباريّة في إنتاج المعرفة وتملّك السلطتين العمليّة والرمزيّة والقدرة على نحت أدوار فاعلة وموجّهة رغم اختلاف الأطوار التاريخيّة والسياقات المجتمعيّة دون أن يمنع هذا الباحثات من الإقرار للنساء بفرادة تجاربهنّ وخصوصيّة أدائهنّ في مسارح الحياة اليوميّة التي أثّثن كثيرا من تفاصيلها وحيثيّاتها، وأفلحن في تأنيث التواريخ العربيّة والإسلاميّة رغم الحجب والقيود.
غير أنّ جدّة الكتاب وعمقه يتخطّيان هذه الألفة بين مقالاتها إلى تنوّع القضايا الإشكاليّة والمقاربات الإجرائيّة التي توسّلت بها الباحثات واستنهضنها لتقويض التعتيم المنهجيّ الممارَس على تواريخ النساء وإنجازاتهنّ. فالنساء كنّ مالكات لناصية المعرفة خبيرات بأسرارها مالكات لأحاجيها مستأثرات بمفاتيحها مثل الكاهنة في الذاكرة العربيّة والإسلاميّة عندما خطّت مصائر الجماعات ووجّهت خياراتها الواقعيّة كما توضح ذلك الباحثة سلوى بلحاج صالح في مقالها “الكاهنات العربيّات: سلطة ومعرفة” أو المتصوّفة التي هتكت حجب عالم السعادة وتسامت عن المدنّس الدنيويّ وارتقت إلى كمال القلب وانفتاح البصيرة كما توضح سماح اليحياوي في بحثها “المتصوّفات ودوائر السلطة والمعرفة” أو سيّدات المجالس الأدبيّة اللواتي حُزن الذائقة الفنّيّة وامتلكن سلطة المال وأنفذن سلطة أحكامهنّ النقديّة في الرجال في مقالة الباحثة هاجر حرّاثي “المرأة وجدليّة المعرفة والسلطة: قراءة في المجالس الأدبيّة النسائيّة عند العرب إلى نهاية القرن الثالث الهجريّ”.
ولا تكتمل معالم النساء في كتاب “النساء والمعرفة والسلطة” بالتنقيب في الماضي واستنطاق الذاكرة الغنيّة بنصوصها وسرديّاتها فحسب، بل كذلك في الانغماس في الوقائع الراهنة والانكباب على تجارب مغمورة لنساء تجاسرن على التخومات الذكوريّة وقوّضن القيود البطريركيّة. فالباحثة هاجر منصوري في مقالها “خطاب القبيسيّات ورهان التغيير الاجتماعيّ” تعالج ظاهرة الحركات الاجتماعيّة التي أسّستها فئات من النساء استطعن بها التموقع في الحقل السياسيّ السوريّ والإقليميّ والفعل في المشهد المجتمعيّ وتأسيس صوت مخصوص بهنّ. أمّا ريحان بوزقندة فاشتغلت على ظاهرة تعامت عنها المنصّات الإعلاميّة العربيّة والإسلاميّة ولم تتعرّض لها إلّا من موقع التحريم والتجريم وهي ظاهرة النساء الإمامات اللواتي كسرن الاحتكار الذكوريّ للزعامة الروحيّة والاجتماعيّة لطقس صلاة الجمعة في مقالها “إمامة النساء شوق إلى كسر الطوق”.
وبما أنّ كتاب “النساء والمعرفة والسلطة” ينطوي على استراتيجيا ذكيّة ومقصودة في ترتيب مقالاته، فلا بدّ أن نتفحّص فاتحة أعماله وهو مقال الباحثة آمال قرامي “العلم ذكر لا يحبّه إلّا الذكران”، وخواتيمها وهو مقالة الباحثة سلوى السعداوي “الكتابة النسائيّة من معرفة السلطة إلى سلطة المعرفة: نساء على أجنحة الحلم و شهرزاد ترحل إلى الغرب لفاطمة المرنيسي أنموذجين”. فمقاربة آمال قرامي انطلقت من مأثور دينيّ ـ هو في حقيقته ثقافيّ واجتماعيّ ـ يختزن منظورا ذكوريّا متحيّزا يَسِم النساء بالنقصان وانعدام الأهليّة بمسوّغات مغلوطة تقصيهنّ من حقّ النفاذ إلى المعرفة وتمكّن للرجال من السيادة على الحقيقة وامتلاك السلطة. أمّا سلوى السعداويّ فأمعنت تفهّما وتأوّلا في المتن الروائيّ للنسويّة المغربيّة فاطمة المرنيسي مبرزة قدرة أفانين السرد وعوالم المحكيّ النسائيّة على مقارعة الاستبداد الذكوريّ وزعزعة المواضعات وابتناء آفاق تحرّريّة أي كيف يكون الكتابة النسائيّة مطيّة إلى الحرّيّة؟ 
وما كان لهذه المقالات مجتمعة أن تعبّر عن وعي نسويّ حادّ بضرورة اختراق التعتيم الأيديولوجيّ وتقويض الأصنام الثقافيّة دون أن تمتلك عدّة نظريّة ومنهجيّة تكفل لها القدرة على التفكيك والانتهاء إلى نتائج موضوعيّة وقويمة. فكلّ المقالات التزمت فكريّا ونظريّا بمقاربة منهجيّة مخصوصة تظهر تنوّع الأدوات والخلفيّات والمنطلقات لباحثات مهمومات بأحوال النساء ولكن من موقع المتدبّرات الرصينات لا من موقع المنافحات أو الانفعاليّات. لهذا تنوّعت المقاربات من التقاطعيّة مع آمال قرامي إلى الدراسات التاريخيّة والأنثروبولوجيّة مع سلوى بلحاج صالح إلى الدراسات الجندريّة والنسائيّة مع سماح اليحياوي. وكلّما أوغلنا في مقالات الكتاب تكشّفت أكثر رهانات المنهج التي استبدّت بالباحثات، فهاجر خنفير عوّلت على مقاربة متعدّدة الاختصاصات جمعت فيها التاريخ والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، أمّا هاجر خنفير في مقالها “الداعيات الإسلاميّات وسلطة القوامة المعرفيّة” فلاذت بمقاربة الخطاب ومناهج تحليل الخطاب الإعلاميّ. بينما عقدت هاجر منصوري أواصر التكامل بين الخطاب وسوسيولوجيا الحركات الاجتماعيّة ومكتسبات التنظيرات النسويّة. ولا تنأى ريحان بوزقندة عن هذا السمت، فقد راوحت في تحليلها بين المنظورين الجندريّ والنسويّ مثلما أفلحت سلوى السعداوي إلى حدّ كبير في المزج بين السرديّات والتأويليّات وعلوم النفس والاجتماع في فكّ أحجية العلاقة بين النساء والكتابة.
لكنّ كتاب “النساء والمعرفة والسلطة” على عمق إشكاليّاته وطرافة مقارباته وهمومه البحثيّة والتحرّريّة لا يمكن أن يختزل تواريخ كلّ النساء وحيواتهنّ، فقد انصبّ الاهتمام على النساء العالمات أو النخبة النسائيّة ماضيا وحاضرا مهملا أصوات النساء الكادحات والفقيرات والمهمّشات في الأحياء والمخيّمات والحروب والصراعات اليوميّة. أمّا من جهة أخرى فثنائيّة المعرفة والسلطة لا يمكن أن تُفهم من كلّ جوانبها إلّا بتنزيلها في منظور جندريّ متكامل يبحث عن مواقع الرجال في هذه الثنائيّة وطرائق استحواذهم على السيادة واستدامتها لفهم التقاطعات الخفيّة بين الرجال والنساء ومفاعيلها في شبكة الأدوار والعلاقات والنفاذ إلى الموارد والقدرة على تصريفها واستثمارها.

لمحمد سويلمي.

الحوار المتمدن-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate