اصلاح ديني

المساجد بين رهانات الدعوة و التحكم الديني المغرب نموذجا(٣).

3- استراتيجيات الدولة في التحكم الديني عبر المساجد

إدراكا منها لخطورة المنابر المسجدية، ظلت مهمة الإشراف على دروس الوعظ والإرشاد، من اختصاص الدولة المغربية، التي كانت منذ القرن السابع والثامن الهجريين، تتدخل في بناء المساجد والإشراف عليها من خلال تحبيس الأوقاف وتعيين القيمين الدينيين، كما أن دروس الوعظ والإرشاد لم تكن تلقى دون استئذان من السلطات التي تعمد إلى مراقبة هؤلاء المرشدين والوعّاظ؛ ففي عهد المرينيين مثلا، كانت الدولة تسهر على تسيير شؤون المساجد وتعيين قيميها والمشرفين على الكراسي العلمية بها، مدركة خطورة الانحراف السياسي الذي يمكن أن يميز الدروس العلمية والدينية، لذلك اتخذ إشرافها على هذه الفضاءات شكل متابعة ومراقبة حتى للمضامين والمحتويات الملقنة داخلها حتّى لا تتحول إلى شؤون الدولة؛ كما ظل الحكام وأعوانهم يتوجّسون من كراسي المساجد، من حيث إمكانية تحولها إلى منابر سياسية مناوئة.

ومع فجر الاستقلال، عملت الدولة الوطنية على احتكار تسييرها للشأن الديني، مقلصة من دور العلماء ومقزّمة لمكانة رابطتهم العلمية، إلى الحدّ الذي أصبحت فيه مغيّبة عن الحياة اليومية والمجتمعية، فاستحالت إلى مجرّد مؤسّسة لتقديم المشورة الشكلية دون القدرة على المشاركة السياسية؛ كما أنّ المجالس العلمية التي تمّ تأسيسها، ظلّت غير قادرة هي الأخرى على المبادرة ولو بعقد اجتماع دون إذن من الملك أو الحصول على موافقته.

بعد احتجاجات أبريل 1984، التي تورّطت فيها جماعات إسلامية، ستضاعف الدولة من سياسة الرقابة على المساجد، حيث تمّت محاصرة أنشطة “الدعاة المستقلّين” وفرضت نماذج جاهزة من الخطب يكتفي الخطباء بتلاوتها، كما تمّ إقفال أماكن العبادة خارج أوقات الصلاة وتشديد التضييق على الأنشطة الدينية التي تقام بالمساجد. إلاّ أنّه من الواضح أنّ هذه السياسة أخفقت جزئيا في مراقبة الحركات الإسلامية، طالما أنّ هذه الأخيرة ظلّت تستعمل أساليب كثيرة للتملص من المراقبة ومنها التنظيم أو العمل السرّي.

بالموازاة مع ذلك، سعت السلطات أيضا إلى تقليص أماكن العبادة، وتمّ التحكّم بكلّ قوّة في بناء المساجد وأخضعت لموافقة مسبقة من وزارة الأوقاف، على اعتبار أنّ المسجد “ليس مجرّد مبنى يجب أن تتوافر له الإرادة الحسنة وأعمال الترميم والتصليحات شأنه في ذلك شأن كافة الأملاك العامة، ولا يكفي أن يكون مملوكا لأحد لكي يكون لمالكه الحق في الإشراف على استخدامه”، كما وسّعت من صلاحيتها في قبول أو رفض رخصة بنائه وألزمت صاحبه، بتمليك مبان خاصة للحبوس (دكاكين في الغالب) من خلالها يتمّ دفع أجور صيانة المسجد وأجور المشرفين عليه؛ على أنّ تعيين الخطباء والأئمة من طرف الأوقاف، سيصبح رهين استشارة سلطات الدائرة أو العمالة وكذا أعضاء المجلس العلمي؛ ولأجل متابعة الجمعيات الدينية والنشطاء الدينيين المتعددين، تمّ تعيين أطر خاصة لها تكوين في “المسائل الدينية”، ألحقت بالعمالات وأنيطت بها مهامّ الإشراف على المصالح والشؤون الدينية[48]. كما تحكّمت الدولة أيضا، في طلبات الترخيص الخاص ببناء المساجد الجديدة، وضم المساجد التي شيّدها الخواص إلى الوزارة الوصية وجعلت تحت تسييرها المباشر، كما عملت على الإشراف على تكوين القيّمين الدينيين بتنسيق مع المجالس العلمية وتنظيم دورات لفائدتهم، وإنجاز تقارير متتالية ودورية حول أحوال المساجد وحاجياتها وسائر الأنشطة القائمة بها.

إدراكا منها لأهمية المسجد وخطورة خطب الجمعة التي تلقى داخله، بل ولوعيها بتأثيرها الإيديولوجي، ظلّت الدولة المغربية تراقب باستمرار وحذر شؤون المعتقد، كما تراقب بنفس الاهتمام مجالها الترابي، سعيا منها للحفاظ على الأوضاع القائمة دون أي فصل بيّن بين الأمن المادي والروحي؛ فباسم الدين ترسّخ وجودها وشرعيتها كما تعمق سلطتها، “لأن من يتحكم في المعتقد، في السلطة الدينية والروحية، في السلطة الرمزية، يمكنه التحكم في السلطة المادية ومن ضمنها المجال، وكذا التحكم في المجال السياسي أي في اتخاذ القرار”. لكن ينبغي القول، إن سياستها تجاه المساجد اتسمت عموما ببراغماتية واضحة، بمدّ يد الدعم والمساعدة حينا وقطعها أحيانا أخرى؛ فقد عرفت مثلا تشجيعا قويا، سواء بالمدن أو بالبوادي، أيام كان “علال الفاسي” على رأس وزارة الأوقاف (1961-1962) لمّا هو حاول أن يجعل منها قناة لتوسيع قاعدة حزب الاستقلال في صفوف الأئمة وفقهاء الكتاتيب القرآنية؛ وأمام ضغط الحزب الذي حظي بتمثيلية الأغلبية بالبرلمان، استجاب القصر لهذا التوجه الإيديولوجي، إلا أن آمال هذه الفئات الدينية سرعان ما منيت بخيبة شديدة، ليكشف مآل الأمور تدريجيا عن مغرب سائر في طريق مغاير وليبدو الدعم والتشجيع الذي لقيته المساجد ونشطاؤها لم يكن إلا نوعا من المغازلة السياسية الظرفية.

بعد أحداث 2003، ستعرف سياسة الدولة تجاه المساجد منعطفا مهما، بتشديد الاحتراز والحذر، إلى حدّ إغلاق مجموعة منها لكونها اعتبرت أنوية صلبة لخلايا متطرفة، تنشر من خلالها أفكارها المتشددة، بل عقب الأحداث مباشرة، ستتم تعبئة المساجد في كل أنحاء البلاد للتنديد بالأعمال العنيفة، ووظّف الخطباء بأمر من الجهات المسؤولة، منابرهم الأسبوعية لتبرئة ساحة الإسلام من هذه الممارسات التي وصفت بالإجرام والإرهاب، وأكدت بعض الأصوات على أن الحقل الديني لا ينبغي أن يبقى مفتوحا كما كان أمام أئمة وخطباء نصف أميين أو متطرفين أو لا تتحقق فيهم ضوابط الإمامة من الاجتهاد الفقهي والديني، في هذا السياق الأمني، تمّ إغلاق المساجد الصغرى التي كانت عبارة عن مرائب، لا سيما تلك التي توجد في وسط الأزقة والأحياء المزدحمة للمدن العتيقة، والتي يرتادها الحرفيون وصغار التجار، والراجح أنها كانت تقع تحت سلطة نشطاء سلفيين تحديدا، كما تم إغلاق جمعيات الدعوة إلى القرآن والسنة، التي تنشط بمساجد في حوزة محسنين أوفياء لنشطاء سلفيين. نستطيع أن نؤكد إذن، أنّ الدولة انتبهت لهذه المخاطر الدعوية وتغلغل أفكارها الإيديولوجية، عبر سياسة عرفت بـ “تأهيل الحقل الديني منذ 2004″، فألحقت المساجد لمندوبية خاصة تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ومن ثمة باتت تتكفل بتنظيم وتتبّع وتوجيه الوعظ والإرشاد داخل أماكن العبادة بتنسيق مع الهيئات والمجالس المحلية.

وعبر سياسة الضمّ والدمج، تم إلحاق عدد من المساجد لوزارة الأوقاف؛ ولئن كانت من قبل أحداث 2003، تشترط توافر مجموعة من العناصر للنظر في طلبات الدمج الواردة، كأن يكون المسجد مؤهلا ومستقلا بموارده ومرافقه، في محاولة منها للتخفف من أي عبء مالي إضافي، فإن أحداث 16 مايو العنيفة سرّعت في الواقع من وثيرة تأميم وضم المساجد للوزارة الوصية، خوفا من تنامي المد السلفي من جهة، ورغبة من جهة ثانية في إحكام القبضة على هذه المنابر ضد أي خطر محتمل، متنازلة عن الشروط الصعبة التي كانت تضعها في قبول طلبات ضم المساجد.

في سنة 2005، ستضاعف الدولة تحكمها في مصادر تمويل المساجد، وذلك عبر قانون متعلق بالأماكن المخصصة لإقامة شعائر الدين الإسلامي، للحيلولة دون استغلالها لأهداف أخرى مخالفة. من هنا تم جعل الوالي أو العامل، هو المسؤول عن الترخيص لبناء مسجد معين، بعد تأكيد اللجنة المسؤولة مدى احترامه للشروط المحددة من قبل الوزارة المعنية. كما تم الحد من أنشطة الجمعيات المسجدية التي لا توافق الخط الديني والمذهبي للدولة وفقا لقوانين خاصة، وبموجبها تم تجميد عدد من هذه الجمعيات، تورطت في تحصيل أموال بطرق غير شفّافة وخارج وصاية السلطة التي تراقب عملية جمع التبرعات وطرق إنفاقها. لكن نتساءل، إلى أيّ حد وفقت الدولة بهذه الإجراءات في الحد من استغلال المساجد لأغراض دعوية وإيديولوجية؟ وهل تراها تستطيع بذلك القضاء على التطرف والتشدد الدينيين؟

نؤكد بداية أنّ التطرف، وهو الظاهرة القديمة-الحديثة، ليس وليد الدين وإنما هو وليد نوعية فهم أو تدين خاص؛ وبشكل أوضح فمبررات وجوده تتداخل في صنعها عوامل كثيرة بعضها خارجي، لكن أغلبها بنيوي ويوجد لصيقا بالمجتمع المغربي. لذلك هناك من يرى أنّ النظام السياسي، ساهم هو نفسه في صنع القاعدة الأساسية للإسلاموية بمختلف مشاربها وأصنافها، لأنه بعد أن تم إفقاد الأحزاب والهيئات السياسية شرعيتها ومصداقيتها، بدأ البحث يتجه نحو بدائل أخرى جسدتها بذكاء وبراغماتية حركات دينية وجماعات الإسلام السياسي ولئن انتهى بعضها إلى الدخول في اللعبة السياسية والانخراط في ممارسة التدبير الحكومي والتنصل التدريجي من خطابها الأخلاقي المتشدد الذي كانت تمارسه في المراحل السابقة، فما زال بعضها الآخر يعمل في سرية مطلقة أو يرفض الانخراط في لعبة السلطة.

بالرغم إذن من كل هذه الإجراءات، فإنّ جزءا من المساجد ما يزال تحت سيطرة عناصر دعوية وجماعات إسلاموية على الأقل رمزيا، بالنظر إلى أساليبها السرية في التنظيم والعمل والاشتغال. كما أن إخضاع المساجد غير التابعة للأوقاف لمراقبة الوزارة الوصية، ما زالت تخترقه مجموعة من الاختلالات، ما دامت الجمعيات المسيرة هي التي تتكلف باختيار الخطباء بعد تزكية من أحد المجالس العلمية، ولا شك أن الأمر لا يحدّ من تسلل دعويين نشطاء إلى منابر الجمعة في المساجد بطرق أو بأخرى.

لا ننسى أيضا أنّ الدولة رسّخت عبر مراحل مختلفة صورة، تبدو فيها شبه متخلّية عن المساجد أو لا تدعمها كفاية ومتى ما قارننا بين تحكمّها في هذه المؤسسات ودعمها، سنلفي كفّة الدعم أخفّ بكثير من كفّة المراقبة والتحكّم. فالتمويل والإعانات الموجهة إلى الجمعيات المسجدية هزيل جدا إذا ما قورن بحجم الدعم الذي تقدمه الدولة لجهات أخرى، زوايا وأضرحة وغيرها. وإلى اليوم لا زالت أجور بعض المسؤولين الدينيين على المساجد تتوقف على إعانات المحسنين، كما أنّ المساجد غير التابعة للأوقاف ما تزال متروكة لدعم المحسنين وتبرّعاتهم، مما يفتحه على سبل أخرى قد تكون مشبوهة أو تتحكّم فيه أطراف وخلايا، يتعلق الأمر أحيانا بأموال سخية تكثف بها هذه الأخيرة شبكاتها الدعوية والسياسية.

خلاصة

يمكن القول، إنّ نمط السياسة الدينية للسلطة المغربية وتعاملها مع أماكن العبادة مر بمراحل مختلفة، اخترقتها تكييفات وتعديلات وأهداف لحظية وأخرى بعيدة، إذ يقوم النظام المغربي ككل على توظيف قوي للدين، فالملك هو في الوقت نفسه أمير للمؤمنين وإمام؛ وقد ظل قادرا على مراكمة السلطة الدينية والسياسية والعسكرية، لكونه المشرف المباشر على الجيش وبيعته الشرعية لا يسندها غير العلماء، باعتبارها الصيغة القرآنية للسلطة السياسية، المجسدة للصورة النموذج والمعبرة عن فكرة العهد والعقد.

على أنّ هاجس الدولة وحرصها على التوظيف الإيديولوجي للدين، إلى الحد الذي يمكن أن نتحدث فيه عن “أصولية الدولة” وتشدّدها في مراقبة المساجد، كان يحركه باستمرار الخوف من أن تتحول هذه الأخيرة ومنابر خطبائها إلى أسلحة تهاجمها عبر مشاريع دعوية، فقد أدركت عبر مسار التاريخ، أنّ الدعوة مشروع سياسي إيديولوجي، فالوعظ والإرشاد يخفيان دعوة إلى تفسير معين للدين يهدف إلى جمع الأفراد سياسيا عبر الدين.

ولأنّ الدولة المغربية تعي مخاطر هذا التمفصل بين المشروعين، فإنها بالإضافة إلى اعتراضها على أي مشروعية دينية منافسة، ترفض تحويل الدين من ملكية المجتمع إلى ملكية مجموعة صغرى أو أفراد ينضوون داخل جماعة مذهبية، لأنها تعي أنّ الدعوية إنما هي تمارس تضليلا كبيرا، وهي التواقة لدخول الحلبة السياسية، متعمّدة إخفاء مضمونها السياسي ومدّعية أسلوب الوعظ والإرشاد الأخلاقي الخالص، والحال أنها تتوسّل كافة سبل التجييش والتعبئة. أفلم يكن مبدأ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، البوابة الأساسية لمهاجمة النظام وتهديده؟

لعبد الهادي أعراب.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate