اصلاح ديني

نظرية التجاوز المذهبي لا للعداء والوحدة والتقريب، نعم للتجاوز (3).

لقد أصبحت لفظة العالم لا معنى لها، فهي ستار للجهل والمصالح الطائفية أو الإيديولوجية.

عجيب أمر هؤلاء، إذ يزعمون أنهم مالكو الحقيقة المطلقة، ومع ذلك يتناقضون حولها، إن هذا يذكّرني بما صوره المرحوم علي الوردي، من أن العالم الشيعي والعالم السني كل منهما يدعي أن استدلالاته منطقية صحيحة لا ريب فيها، ومع ذلك يتضارب القياس المنطقي فيما بينهما، ويبقى من الصعب حل النزاع بين الطرفين وكل منهما يضفي على نفسه وهم القداسة الدينية، حتى أصبح المذهب دينًا، والدين مذهبًا، وصار التفريق بينهما عسيرًا للغاية. فسواء العلماء أم الأتباع، أغلبهم يظن بأنه يحمل ما يمثل عين الدين، أو يطابقه دون تردد، خلافًا لما يحمله المذهب الخصم، فنحن بالتالي أمام حق مطلق إزاء باطل مطلق، يرى كل منهما أنه صاحب حق مطلق، وكثيرًا ما يكون التوهم بأنه الحق لا يتجاوز الكيانين المذكورين، فإما أن يتمثل الدين بما يقوله الشيعة أو ما يقوله أهل السنة ولا ثالث لهما. ويحضرني في هذا الصدد كلام لمحمد جواد مغنية، وهو ينقل حواره مع أحد المشايخ السنة الذي يرى أن الحوار بين السنة والشيعة يحتاج إلى طرف ثالث، فيجيبه مغنية بأن ذلك يعني الحاجة إلى مسيحي أو يهودي، مما يعني أن الإسلام قد انحصر في هذين المذهبين المتخاصمين.

لقد اعتادت المؤسسات الدينية إظهار التناقضات العقدية الحادة لاستفزاز الآخر، فمن المألوف تضليل المقابل وجواز غيبته وعدم الاعتراف بإيمانه وإبطال عباداته، بل تكفيره، ويصل بعض كبار العلماء إلى أن يصف في أحد كتبه الفقهية الاستدلالية أتباع الطرف الآخر بأنهم أشرّ من النصارى واليهود وأنجس من الكلاب والخنازير، وأنه لا يجوز الترحّم على موتاهم…إلخ. ومثل هذا الوصف نجده لدى عدد من رجالات الطرفين وعلمائهم.

إن نسبة كبيرة من الطرفين تساهم في هذه النغمة، بدعوى الديانة، والحقائق الواضحة، وانجلاء الحق وتمايزه عن الباطل، والفرقة الناجية وسط فرق الضلال، وما إلى ذلك من مبررات قد أشبعتها الكتب المتنافسة، لذلك كان من الصعب القضاء على هذه الآثار التاريخية المدمرة التي مازالت تخيم على عقول كثير من الناس علماء وأتباعًا. ومن الحقائق المفارقة والصادمة أنه بالرغم من أن الإسلام جاء ليوحّد أبناءه ويحذّر من حلول الفرقة فيهم، كما حلّت بأهل الكتاب من قبل، فإذا بهم يعملون على تفريقه وتقويضه.

أما دعوات التقريب بين المذاهب، فلم تجنِ شيئًا رغم ما مرّ عليها من عقود طويلة، وأن الاعتراف بشرعية الطرف المقابل ظل محصورًا وضيّقًا إلى أبعد الحدود، ولا أتوقع أنها ستتغلب على المشاكل التي تواجهها، وذلك لمسألة بسيطة تتعلق ببعض التناقضات المستفزة التي يصعب حلها ما لم يتم التنازل عن أمور تعتبر لدى الطرفين من صميم العقيدة الدينية. فالدعوة إلى الوفاق تتطلب التضحية بأغلى الأثمان. وقد كنت في الماضي من الراكبين هذا المركب، لكن أين التمني من الرياح العاتية؟

فليست المشكلة ثنائية، بل ثلاثية يدخل فيها بعمق طرف ثالث هو ما يجعل الموضوع معقدًا، وبالتالي لا بد من صياغتها بدقة لرؤية ما إذا كان هناك ضوء في نهاية النفق المظلم أو أن الأفق مسدود، بل لا بد من معالجة أخرى مختلفة قد تفتح للأجيال القادمة سعة في الحياة والتواصل بعد ما أصابنا الضيق والتخلف وسوء الحال. ولا أقل من أن ما يشغلنا دومًا هو الماضي لا المستقبل، والموتى لا الأحياء، وكما يعبّر الشهيد محمد باقر الصدر في “المحنة” عن نزعتنا الاستصحابية التي تجعلنا نثبت على الأشياء دون تغيير، والتي «تجعلنا دائمًا نعيش مع أمة قد مضى وقتها، مع أمة قد ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها، والأمة الحية لا نتعامل معها».

أقول: لا الشيعة ولا السنة تمثل الإسلام ذاته، فهما ينتميان إلى الفكر الإسلامي بكل ما يحمله هذا الفكر من مضامين اجتهادية وصور ذهنية بشرية لا تطابق بالضرورة عين الإسلام، وأن بالإمكان نهج طريق ثالث غير هذين المذهبين، طالما كانا منتميين إلى الفكر الإسلامي لا إلى الإسلام ذاته، فالفكر واسع، وقد يأتي ما هو لاحق أقرب إلى الإسلام مما مضى من مذاهب. الفرق بين المذهب والإسلام كالفرق بين تصورنا لشيء ما وحقيقة هذا الشيء، فكل منهما يمثل نفسه وليس عين الآخر، وإن التطابق المدعى بينهما يحتاج الى أدلة كافية ليس من السهل تحصيلها. ويبقى أن للكل رؤيته التأويلية، بالمعنى الهرمنوطيقي مثلما لكل منا هذه الرؤية للعالم، وهي لا تطابق العالم بالضرورة. وكل ذلك يدعونا إلى الاعتراف بالتواضع المعرفي دون التعصب والزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة.

لا يهم التفكيرُ في الأسس التي تقوم عليها الاعتقادات المذهبية أو ما يطلق عليها الاعتقادات الدينية ومدى متانة هذه الأسس، الباحثين والعلماء والأتباع. فالحديث عن الدين ملتبس بالحديث عن المذهب، فيوهم بأنه يحمل القداسة المطلقة، رغم أنه لا يتجاوز الرأي. لقد تحولت قداسة الدين إلى قداسة المذهب، وقد سوّقها الأخير لنفسه وعلى الضد من الآخر، لهذا ظهر التكفير والتضليل وساد وما زال. فلو التفت الباحثون إلى أسس البحث الديني لكانت النتيجة غير ما يصوره أطراف النزاع، ولكان الحديث عن المقدس والحق المطلق يضيق إلى أبعد الحدود، في حين أنه يتسع يومًا بعد آخر لدى الأطراف المتنازعة التي يدعي كل منها أنه يحمل جوهر القداسة والحقيقة المطلقة دون سواه.

وبنظرة فاحصة للمذهبين السني والشيعي، سيجد الباحث أنهما يحملان أكثر من تسعين بالمئة من الأفكار مردها الظنون والأوهام والاحتمالات الكثيرة، أو على الأقل أنها ليست معلومة من صحيح الدين. وإن أغلب الناس لا يعرفون هذه الحقيقة ولا يدركون كيف ذلك، باعتبارهم لم يطّلعوا على كيفية نشأة المذاهب تاريخيًا ومعرفيًا، وإن من يعرف ذلك يخشى التصريح به، لكن الحقيقة تكشف عن نفسها مهما طالت محاولات التغطية والتستر، فإذا لم تنجل اليوم فستظهر للأجيال غدًا، وسنكون محل إشكال واتهام على جهلنا وتعصبنا.

ليحيى محمد.

مؤسسة مؤمنون بلا حدود-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate