اصلاح ديني

نظرية التجاوز المذهبي لا للعداء والوحدة والتقريب، نعم للتجاوز(2).

فيلاحظ حول السجال السني الشيعي أن لكل منهما قوة هجومية عالية باتجاه الآخر، رغم أنهما يضعفان في حالة الدفاع عن الذات، فهما كمن له القدرة على إصلاح الآخر دون التمكن من إصلاح ذاته، ولكل منهما القوة في تضعيف خصمه وإيهام أتباعه بتهافت المقابل، رغم أن الدفاع عن الذات أمر غير ميسور، فتكثر بذلك التأويلات والتوجيهات البعيدة التي لا تنتهي. وكثيرًا ما يمارس كل منهما الانتقاء والتعميم ليفرضه على المقابل، والأتباع يصدّقون ما يقوله زعماؤهم وما يصورونه لهم بلا تحقق. وكثيرًا ما تُمارس لعبة المخاتلة وحوار الصم واعتبار ما يقدمه الخصم من أدلة قوية من الشبهات، وغالبًا ما تتحكم الحالات النفسية بالصراع بعيدًا عن الطرح الإبستيمي المستقل.

إن الانتقاء والتعميم وغياب تفهم الطرف المقابل بممارسة التفكير الإيديولوجي هي الملامح العامة المشتركة للذهنية المذهبية لدى الطرفين المتناحرين، إذ يعمل بها المتصدون للنزاع كما يعمل بها الأتباع، وكلا المذهبين يتصرفان تبعًا لاعتبارات القبيلة والعشيرة؛ أي السعي لنصرة الانتماء العشائري ضد المقابل دون البحث عن الحقيقة. فالأخيرة مسلّم بها سلفًا مع الرغبة في أن تظل الأمور على ما هي عليه دون قلب الحقائق، ويبقى الهدف متمثلاً بإيقاع الخصم بشتى أنواع التهافت، وهو العمل الإيديولوجي المشابه للوضع القبَلي العشائري، مما يفقده صفة التدين وتقوى التعامل مع الذات والآخر، مع ضعف البناء المعرفي الإبستيمي.

فبالنسبة للتعميم، تجد من الشيعة من يعمم ويرى أن السنة مجسمة أو مشبهة، ويأتي بشواهد تدل على مراده، لكنه يجهل أن هذا التعميم خاطئ، كما يجهل أو يتجاهل أن من قدماء الشيعة من كان مجسمًا ومشبهًا بشهادة عدد من زعماء المذهب. وتجد من السنة من يتهم الشيعة في بأنهم قائلون بتحريف القرآن، أو أنهم مجسمة، ويأتي بشواهد من روايات المذهب واعتقادات عدد من علمائه، لكنه يجهل أو يتجاهل أن هذا التعميم خاطئ، وأن هناك من يتهم بالتهمة ذاتها لدى السنة.

كذلك الحال مع الانتقاء، فهي صفة يمارسها المذهبان بشكل كبير أحدهما ضد الآخر، ولسان حال كل منهما يقول: “من فمك أدينك”. فيأتي الشيعي إلى كتب السنة ومنها الصحاح ليبحث عن المثالب التي تطعن في عدد من الصحابة، ويلتقط بعض الأحاديث ويدع أغلب الروايات التي تثني عليهم، إذ لا يهمه ما تقوله هذه الكتب سوى تأييد نزعته المتشددة للانقضاض على غريمه، دون التفات إلى المعارضات. وكذلك يفعل السني، إذ يتجه إلى كتب أحاديث الشيعة ويعزز وجهة نظره حول ما تقوله في الغلو وتأليه الأئمة أو اعتبارهم غير مخلوقين أو غير ذلك، فيعاملها معاملة الأحاديث الصحاح، ويترك سائر الروايات المعارضة، كما يترك خلاف العلماء حولها.

إن هذه اللعبة والمخاتلة كثيرًا ما تزاولها الأطراف المتنازعة، علماء وأتباعًا، وعلى الرغم من أن من يتوسمون باسم العلم يمارسون هذا النهج التعسفي إلا أنهم يدركون أن الممارسة التي تماثلها في الفقه تعد جهلاً فاضحًا، فلا يغتفر لمن يقوم بهذا الدور السقيم، لكنهم مع ذلك يزاولونه في العقائد أو عندما يكون الأمر متعلقًا بالطرف الآخر. فمتى كان الدين خاضعًا لهذا اللعب والمخاتلة؟ ولماذا تحوّل إلى نهج قبلي وعشائري تتحكم فيه الميول الطائفية على حساب الحق والحقيقة؟ فلو أن أتباع كل طائفة صادف أن نشأوا ضمن الطائفة الند، لكانوا مخلصين لهذه الأخيرة، فلا فرق بين أن ينتمي زيد، مثلاً، لهذا المذهب أو ذاك، فالتقليد واتّباع القبيلة والعشيرة يبقى ثابتًا دون تغاير واختلاف، مما يجعل الحالة رهينة دراسة علم النفس الاجتماعي “سوسيوسايكولوجي” عوض الجدال معهم فيما يقلدونه من الأدلة دون تحقق. لذلك، فعندما نقول: لماذا لا يخلص هؤلاء باتّباع الحق حيثما كان؟ إنما نريد بذلك دراسة حالتهم النفسية قبل كل شيء. فما زالت شبهة الغزالي تلاحقهم إلى يومنا هذا، إلا من رحم ربي. فهو يقول بالاقتصاد في الاعتقاد: «وأما اتّباع العقل الصرف فلا يقوى عليه إلا أولياء الله تعالى الذين أراهم الله الحق حقًا وقوّاهم على اتباعه، وإن أردت أن تجرب هذا في الاعتقادات فأورد على فهم العامي المعتزلي مسألة معقولة جلية فيسارع إلى قبولها، فلو قلت إنه مذهب الأشعري لنفر وامتنع عن القبول وانقلب مكذبًا بما صدّق به مهما كان سيء الظن بالأشعري، إذ كان قبح ذلك في نفسه منذ الصبا، وكذلك تقرر أمرًا معقولاً عند العامي الأشعري، ثم تقول له إن هذا قول المعتزلي فينفر من قبوله بعد التصديق ويعود إلى التكذيب. ولست أقول هذا طبع العوام، بل طبع أكثر من رأيته من المتوسمين باسم العلم، فإنهم لم يفارقوا العوام في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل، فهم لا يطلبون الحق بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما اعتقدوه حقًا بالسماع والتقليد، فإن صادفوا في نظرهم ما يؤكد عقائدهم قالوا قد ظفرنا بالدليل، وإن ظهر لهم ما يضعف مذهبهم قالوا قد عرضت لنا شبهة، فيضعون الاعتقاد المتلقف بالتقليد أصلاً وينبزون بالشبهة كل ما يخالفه، وبالدليل كل ما يوافقه، وإنما الحق ضده، وهو ألا يعتقد شيئًا أصلاً وينظر إلى الدليل ويسمي مقتضاه حقًا ونقيضه باطلاً، وكل ذلك منشؤه الاستحسان والاستقباح بتقديم الألفة والتخلق بأخلاق منذ الصبا.»؟

ليحيى محمد.

مؤسسة مؤمنون بلا حدود_موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate