اصلاح ديني

نظرية التجاوز المذهبي لا للعداء والوحدة والتقريب، نعم للتجاوز(1).

كان أرسطو يقول: من نقد الفلسفة فقد تفلسف، وقد يقال اليوم بحق الذين ينقدون المذهبية بأنهم متمذهبون، فمن جاوز المذهب أو نقضه فقد تمذهب هو الآخر. وقد واجهت الوضعية المنطقية حديثًا، في إطار فلسفة العلم، شبهة حول رؤيتها لتقسيم القضايا المعرفية، إذ ترى أن هذه القضايا لا تتجاوز ثلاثًا؛ فهي إما قضية تحليلية لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي، أو قضية تقبل التحقيق الخارجي، أو أنها لا معنى لها. ومضمون الشبهة هو أن هذا التقسيم يعتبر في حد ذاته من القضايا، لكنه لا يمكن أن يكون ضمن ذات القضايا الثلاث المذكورة، وبالتالي فهو قضية رابعة، مما يجعل التقسيم واقعًا في تناقض. ومع أن فتجنشتاين مؤسس هذا التقسيم قد اعترف بأن ما أشاده من أفكار في كتابه “رسالة منطقية فلسفية” تخلو من المعنى طبقًا للمبدأ الذي بناه، لكنه استدرك وطلب من القارئ الذي يفهم كتابه: أنّ عليه العمل بإلقاء السلّم جانبًا بعد الصعود عليه، فعندها سيرى العالم على نحو صحيح. لكن الجواب الآخر الأكثر منطقية هو اعتبار قضية التقسيم تختلف عن طبيعة قضايا الأقسام الثلاثة، إذ تعود القضية الأخيرة إلى منطق آخر استعلائي، لا يوصف بمثل تلك المواصفات.يمكن الإجابة، بناءً على ذلك، على الشبهة السابقة حول اتهام من ينقد المذهبية بالتمذهب، وهو أنه: إذا كان لهذا النقد تمذهبًا فلا بد أن يكون من منطق آخر مختلف عن التمذهب الحاصل، وبالتالي فهو نفي للتمذهب بالمعنى الشائع، مثلما أن من يقول بالتقريب بين المذاهب أو يدعو إلى الوحدة بينها لا يُعد صاحب مذهب جديد على غرار المذاهب الموجودة، بل يكون مذهبه من صنف آخر مختلف.هذا منطق آخر ليس فيه ما يوازي سائر المذاهب، إذ للمذاهب اعتقاداتها المفصلة، وبعضها يعارض بعضها الآخر، كما أن كلاً منها يدعي أنه يمثل الدين الحق. وأي اتجاه يأتي ليصبغ مثل هذه التفاصيل المطروحة بصبغة الحقيقة الدينية إنما هو مذهب جديد يضاف إلى سائر المذاهب المعروفة. أما عندما يُطرح منطق جديد لا يعمل بآلية المذاهب المتعارف عليها من التقليد والتفصيل، فإنه لا يعد مذهبًا على غرار تلك المذاهب، وإذا ما أُطلق عليه وصف مذهب فالمقصود به أنه نظرية أو مدرسة جديدة تختلف عن المذاهب المشار إليها بالجملة، إذ ما بين المذاهب المعروفة نوع من الموازاة والارتباط العرضي، وقد يضيف اللاحق للسالف ارتباطًا طوليًا مكملاً، في حين أن النقد المذهبي لا يشكل عرضًا وتوازيًا لأي من هذه المذاهب، فضلاً عن أنه لا يدخل ضمن إطار الارتباط الطولي، وتبقى علاقته معبرة عن الجانب العرضي لجميع هذه المذاهب بجملتها وليس لفرد مخصوص منها؛ أي أن النقض وتجاوز المذهب يقع في المذاهب المعروفة قاطبة، وليس واحد منها، في حين أن هذه المذاهب يقف كل منها في مقابل البعض الآخر.ومعلوم أن نظرية التجاوز تكون خارجية متبناة من قبل الاتجاه العلماني تارة، وداخلية تنتمي إلى ذات الفصيل الديني تارة أخرى، وهو ما نتبناه، بل نوليه أهمية عظمى لإنقاذ الدين بعد ما دنّسته يد التشويه بالخرافة والتكفير والقتل والاستبعاد والتضليل، والعمل بمقالة شعب الله المختار. ومعلوم أن كثيرًا من الناس يتوق إلى أن يجد حلاً عقلانيًا يحفظ للدين هيبته بالبعد عن التمذهب الذي ما زلنا نجني آثار مساوئه بفعل الصراع والنزاع نيابة عن الله أو عن الآلهة المصطنعة. وتبقى محنة كثيرين تتمثل بغياب البديل.وتعتمد نظرية التجاوز المذهبي على أمرين أحدهما يتمم الآخر، هما: النقد الجذري وتقديم البديل عن دائرة المذاهب دون الخضوع لسلطتها، وهو تعبير آخر عن اللامنتمي، فلا يمكن تطبيعه ضمن إطار مذهب ما من المذاهب الدينية المعروفة، فقد يتفق مع بعض المذاهب بأمر ويختلف معها بأمور، وبالتالي لا يمكن تحديده ضمن مذهب معين. والأهم من ذلك أنه يخالف جميع المذاهب حول التفصيل الذي ابتدعوه واعتبروه جزءًا من الهوية الدينية بلا دليل، لا سيما أن هذا التفصيل مشوب بالظنون، فلا يصح إحالة شيء ما إلى الهوية الدينية ما لم يكن قطعيًا.وبحسب نظرية التجاوز فليس الدين مصدرًا يعول عليه في التفاصيل، بل المصدر الأساس في ذلك هو الواقع، أما الدين فهو مصدر الإجمال، وبالإجمال نحصل على القطع والبيان، خلافًا للتفصيل المستمد من النصوص عبر الظنون والتكهنات البعيدة كالذي فصلنا الحديث عنه في “فهم الدين والواقع”.لقد أخرج لنا العلماء منظومة واسعة من التفاصيل الدينية التي لا يُعرف لها حدود، وعلّموا الناس بأن مرجعها الدين ذاته، وأصبح من الصعب على المرء أن يتصور خلوّ الدين من هذه التفاصيل التاريخية، فكل شيء يمكن أن تجد له جوابًا عبر مرجعية الدين، بل عبر مرجعيات فرعية جعلت نفسها نائبة عن الدين، لقد أصبح من الصعب على المرء أن يصدق أن أغلب ما قاموا بحشوه لنا من الدين ليس له علاقة بالأخير، وأن دعواه لا تتعدى المسائل القليلة، وهي فطرية بسيطة، وأن ما عداها أُوكلت إلى مقاصد الدين كما يدركها العقل البشري وتدركها الفطرة السليمة.وأكثر من ذلك أن هذه المرجعيات تتنافس وتتناحر حول أيها أحق بالنيابة وتمثيل الدين عبر طروحاتها المذهبية، فلقد أثارت هذه الطروحات في مجتمعاتنا أزمات وصراعات لا تنتهي، وهي بحكم حالها ضعيفة لا تمتلك الرصيد المعرفي الإبستيمي المتين، رغم أنها تمتلك إيديولوجيا فعالة قوية تتحكم في الأتباع.

ليحيى محمد.

مؤسسة مؤمنون بلا حدود _موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate