حداثة و ديمقراطية

من معرفة الحداثة إلى مشكلة الحداثة كقيمة كونية(3).

أ. وحدانية السّوق أو ثقافة الاستهلاك : يعني هذا المظهر من مظاهر أفول القيم، هيمنة الحياة المادية على سلوكات الإنسان، وانتقال قيم السوق التجارية إلى دائرة الحياة الإنسانية، فالسوق لم تكن صلته بدوائر الأخلاق ممكنة، كان للتجارة مكانها وللحياة مكانها أيضا، لكن الملمح الجوهري للحياة المعاصرة هو تحول جميع القيم الإنسانية إلى قيم تجارية، بما فيها قيم الفكر والفنون و الضّمائر، ” ومن الممكن لنا، قي الوقت الحاضر، أن نتّبع مسار نموذج النمو الغربي بدءا من الخطإ القاتل لتوجيه عصر النّهضة المزعومة، أي ولادة الكم، والمحاكمة الذّرائعية، المحاكمة الدّيكارتية، دين الوسائل وقد بتر منه المعيار الأول للمحاكمة: هو التّفكير في الغايات النّهائية للحياة ومعناها”

إنه هذا الدّفع للتعلٌّق الشديد بالحياة الدّنيا، ونسيان أو الغفلة عن البعد الغائي للحياة الإنسانية، أورث نتائج كبرى منها : المخدّرات والتسلُّح والفساد، فالمخدّرات أضحت هي بخور معبد ّ وحدانية السُّوق، والتسلُّح أيضا كما يتجلّى أيضا في إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على اعتبار صناعة التسلُّح من أكثر الصّناعات إقبالا، ويجري تسويقها من أجل الرّبح والمصلحة كغايات نهائية، وهذا ما أنشأ كما يقول هربرت ماركيوز ” الإنسان ذو البعد الواحد”، وهو إنسان تتركّز أحلامه وفكره حول السّلع وكيفية الحصول عليها، وأن ذاته يحقّقها بقدر ما  يحصل على السّلع ويشبع رغباته. إن وحدانية السوق أضحت شبيهة بالفعل الإلهي الذي يتحكّم في أذواق النّاس ويوجّهها إلى مقاصد القيمة المادية والمصلحة الاستهلاكية، ضمن هذا الإطار ” يظنّ الإنسان أنه يمارس حرّيته وفرديته، فمجال الاختيار في عالم السّلع واسع لأقصى حد. ولكن هذا يخبّئ الحقيقة الأساسية وهي أن مجال الاختيار في الأمور المهمة (المصيرية والإنسانية والأخلاقية) قد تقلّص تماما واختفى، وأن هذا الإنسان فقد مقدرته على التجاوز وعلى نقد المجتمع”.

إن وحدانية السوق هذه، واتساع تأثيرها همّشت من دائرة القداسة ورسّخت المعنى المادي للحياة وأفرغت الوجود من غاياته ومقاصده الإيمانية، لقد عظّمت الوسائل ورفعتها إلى مرتبة الغايات.

ب. ضمور الأخلاق في  الأسرة  والثّورة الجذرية  : ثمة تحوُّل نوعي وخطير في مستوى أنماط الأسرة في الغرب، وهي تحول يعكس في حقيقته انطلاق الإنسان المعاصر من الضّوابط والمقاصد الأخلاقية للزّواج، ففيما مضى قدّست التعاليم المسيحية الزّواج المكون من الأب والزّوجة والأولاد، واعتبرت الرّابطة مقدّسة، وحرّمت الكنيسة الكاثوليكية الطلاق من أجل الحفاظ على هذا الكيان الاجتماعي العام، لكن هذا الشكل من الأسرة أضحى غير مرحّب به في أنماط حياة الإنسان المعاصرة، ودخول زمن ” مابعد الحداثة”، الذي بات يؤمن بأشكال غير معهودة من الأسرة كالزواج المثلي، هذا فضلا عن أحادية الأسرة التي يكون فيها أحد الطّرفين غائبا، حيث يعيش فاقدا لمصادر الإمداد بالقيم التي لن يتلقّاها إلا من الوالدين.

هذا ومن العوامل المساعدة أيضا على تفكك الأسرة، الولع بالتّصنيع والتحضُّر بدلالته المادية ” ولقد أدّت عملية التّصنيع، مقترنة بحركة التحضُّر السّريعة، والهجرة إلى المدن الكبرى وتزايد السكّان، إلى جانب عوامل عديدة أخرى في الغرب بصورة تدريجية في القرن الثالث الهجري/ التاسع عشر ميلادي وبدايات القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، إلى انهيار كثير من الروابط الاجتماعية التقليدية في المدن الكبرى وبدرجة أقل في المناطق الرّيفية مما أدّى إلى تمزّق الأسرة وضعفها بصورة تدريجية”

بالإضافة إلى مبدأ الفردية وطغيان الذّات، وهو مبدأ حداثي اعتبره هيجل  ركزة قوية من ركائز العصر الحديث، حيث أنّ الذّات لا تقبل إلا ما يحقّق ذاتها ويمجّد قيمها، فلا يمكن لإنسان يسعه باحثا عن اللّذات الفردية أن يصبر على بكاء طفل، إلا إذا كان يؤمن بنزعة إنسانية تتجاوز القيمة المادية وتؤمن بالأمومة والأبوة.

لعبد الرزاق بلعقروز.

اسلام أونلاين-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate