حداثة و ديمقراطية

من معرفة الحداثة إلى مشكلة الحداثة كقيمة كونية(2).

ثالثا : مظاهر خُصوصية الكونية الحداثية

1 – الكونية الحداثية باعتبارها إرادة قوة : إن التّجربة الحداثية الغربية على الرّغم من نُزوعها نحو أفق الكونية وإيهام المجتمع العالمي بذلك، إلا أنّها كانت تستبطن إرادة القوة والهيمنة، والسّعي نحو إخضاع الأنماط الثقافية الأخرى لنماذجها في تمثّل الآخر، حيث انشطرت العلاقة بينها وبين المختلف الثقافي عنها انشطارا تفاضليا، أضحى الغرب بموجب هذا الوصف هو الذّات، والآخر المختلف هو الموضوع، والغرب بهذا يمارس نوعا من القوامة الثقافية والعلمية والأخلاقية، منبعها الأساسي هو الشعور بهذا النّفسية  المتعالية الاصطفائية صاحبة الرّسالة إلى العالم ” الصّامت”.

إن كونية الحداثة، هي كونية الإنسان الذي يبصر في ذاته أنّه الأرقى والأفضل، وهي كونية تصوير الذّات باعتبارها تملك الحضارة الأفضل، وإنّها لا تتوقف عند هذا المستوى، بقدر ما تفرض الأجواء النّفسية التي تجعل الخاضع لقوتها، يدرك ذاته، من خلال مقولاتها عنه، ومن خلال تمثّلها له، وبهذا يجري ترتيب الصّلة بينها وبينه، بوصفها صلة تعايش واختلاف في الأصل، تعايش بين قوة مهيمنة، تمتلك الإمكانات التقنية وأدوات التحطيم، في مقابل قوى خائرة، مُنهكة، شاعرة بضعفها وكأنّه طبيعة أصلية فيها، ومؤدا هذا، أن الكونية التي أتت بها الحداثة إلى العالم، هي كونية بالخط المائل، أو بالرُّؤية من جانب واحد، وبهذا الإجراء أضاعت هذه الكونية ما تمتلكه الثقافات الأخرى من رصيد القيم المعنوي، ومن رُؤى للعالم متوازنة وأنظمة قيم توحّد بين الطَّبيعة والفضيلة، ومن مقاصد تجمع بين مصالح الإنسان كلّها.

من هنا، جرت المطابقة بين النّسق الثقافي الغربي وبين الكوني، تسليما بتفوُّقية الحضارة الغربية، وبدُونية الأنساق الحضارية الأخرى، من هنا، فإن ثمّة لفتة منهجية من الأقوم لنا منهجيا الإشارة لها، هي التّفريق بين مفهوم الحداثة بالمعنى الذي يتحدّد في المعاجم و الموسوعات، وبين الحداثة كما هي متحقّقة في التاريخ والواقع، فالمفهوم المعجمي مفهوم بارد، يختزل المتنوّع والمتعدّد استجابة للبناء المفهومي، وقد كان نيتشه على حق، عندما قال بأن المفاهيم تجمّد نهر الصّيرورة وتفرغ الموجود من دم الحياة، لأنها اختزالية بطابعها، إنّها تظهر الموجودات باهتة، ثابتة، شبيهة بضحية العنكبوتالمفرغة من دم الحياة، تتجلّى وكأنها حيّة، في حين أن الموت قد زحف إليها ولم يُبقي منها شيئا، ونحن لازلنا أساري لمفاهيم الحداثة المُعجمية، وننافح عن مبادئها، وكأنّها واضحة بذاتها، نعتقد بأن جثّة المفهوم حيّة، في حين أنّها مليئة بالدّماء والصّراع ، إنّها “حداثة الإخضاع”، و التّراتب الثقافي والإقصاء لعوالم الاختلاف.وليست حداثة العقلانية والحرية والإنسان، التي ليست قيما إلا من الداخل، ولا تضيء إلا في حدود الأطر الثقافية والجغرافية الغربية، أما المناطق الأخرى : المُظْلمة، فهي عديمة القيمة، عديمة المعنى، لكن ما هو مؤكّد أنّها موصوفة بهذه المواصفات؛ من خلال منظور، يريد شيئا، تحرّكه إرادة قوة، ترغب في أن تسيطر وتهيمن، ترغب في أن تختلف، ترغب أيضا في الاستمتاع باختلافها، وتنفي ما يختلف، إنها تقيم لنظام تراتب ومسافة بينها وبين من يقع خارج دائرتها.

2- كونية الحداثة باعتبارها كونية الانفصال عن القيمة : إن المقاصد المحمودة التي كانت تتجه نحوها جهود التّنويريين الأوائل، كالقول بالاستقلالية عن السّلطة السّياسية للدّين، وتشغيل العقل من أجل استكناه حقائق الأشياء، لم تكن تدري أن الأجيال التّالية للتّنوير الأوَّل، ستكون أكثر حّدة وتجاوزا، ستتجه بمقولات التّنويريين الأوائل إلى أبعد مستوى وأكثر انسياقا خلف مُثُلِ العقل المتنكّرة لدور الدّين في المعرفة أو القيم، إنها لوحة تبدو على سيماتها ملامح ّ” الإلحاد واللاّروحانية ونقد كل الأديان المنزّلة وغير المنزّلة، ونقد القيم الأخلاقية والسياسية المرتبطة بالقيم الدّينية والميتافيزيقية، الذي يتضمّن بالأساس نظرية في الخداع السياسي للدّين، وإقرارا بالوحدة ” المادية ّ” للطّبيعة، بما في ذلك الماهية الطّبيعية للإنسان، وما ينتج عن ذلك مما كان يسمّى آنذاك “الجبرية”، أي التّفسير الضّروري الذي يحيط بكل ذلك المجال الوحيد الذي هو الطّبيعة”[5]، هذه اللّوحة التّدميرية لكل روائح الميتافيزيقا والدين، جلبت معها قيما مقلوبة للقيم التي كانت سائدة في الزّمنية السّابقة، من أجلى هذه القيم : الانجذاب نحو مملكة النّاس بدلا من مملكة الرّب، والثقة المفرطة في ثقتها في العقل وقدرة الإنسان على المعرفة ” اليقينية والصّحيحة”، والنّظرة التقدّمية المفتوحة على الزّمان، والتوّسل بادئا بالمنهج الرّياضي وثانيا بمنهج الرّصد التّجريبي كقنوات أساسية ووحيدة في كيفية فهم العالم واكتشافه.

إن حركة التّنوير بمبادئها قد دفعت بالفكر إلى مزيد السّير خلف نظام التفكير والقيم المادي، وتشكيل مفارقة بدت أعراضها واضحة، أي ” الطريقة العجيبة التي من خلالها نجح تقدّمها عبر القرون التي أعقبت الثورة العلمية والنّهضة في تمكين الانسان الحديث من امتلاك قدر غير مسبوق من الحرية، النّفوذ، التوسع، سعة المعرفة، بعد النّظر، النّجاح الملموس، ولكنّه أسهم في الوقت نفسه- بمكر في البداية ونقديا بعد ذلك- في تقويض وضع المخلوق البشري الوجودي على جل الأصعدة : الميتافيزيقية والكوزمولوجية .المعرفية، النّفسية، وحتى البيولوجية أخير. ثمة توازن لا يعرف معنى الرحمة “.

لعبد الرزاق بلعقروز.

إسلام أونلاين-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate