اصلاح ديني

التفكير المتدين كنمط عابر للتيارات الحزينة العربية(٢).

أغفل التيار الحداثوي أن يختبر أو يكترث حتى إلى معالجة معرفية فكرية دولية لقضية الدين في المجتمع العربي

ففيما كان الاستعصاء، الذي حكم نمط تفكير الإسلامويين في الأزمنة الحديثة، يعكس إصراراً  على رمي مولود الحداثة الكونية مع الماء القذر، تحول ذلك الاستعصاء إلى عجز بنيوي؛ حيث لم تكن ضريبة ذلك العجز، الذي تعامى عن ملاحظة فرز عقلاني ضروري بين قيم الحداثة، إلا مساراً مديداً من المآزق التي لاتزال تحكم بنية التفكير لدى الإسلامويين.

هكذا، فيما كان التيار الحداثوي العربي يكتشف، في كل نهاية للتقليد، أنه صار أبعد مدى عن صناعة النهضة والتحول الحضاري، عن النقطة التي كان فيها، رغم تقليده المستمر للغرب، أصبحت الإشكالية التي يحيل إليها نمط التفكير “المتدين” عبر آلية قياس الشاهد على الغائب، تبدو أكثر شبهاً بالجميع!

لقد أغفل التيار الحداثوي، تحت الخضوع لقوة الإيمان التقليدي الذي راهن عليه للحاق بالغرب، (وكان هذا التيار هو الأعلى قدرة وصوتاً في الفضاء العام منذ بدايات القرن العشرين) أغفل أن يختبر  أو يكترث حتى إلى معالجة معرفية فكرية دولية لقضية الدين في المجتمع العربي (التفكير في الإصلاح الديني) ؛ فيما كان يحسب، متوهماً، أنّ الدين صار وراءه كجزء من بقايا العالم القديم (ولن يعود ثانيةً) بعد أن تجاوزته الحياة العربية الحديثة، ما أدى، نتيجة لذلك الإغفال، إلى انفجار نزعات التدين التي سميت منذ أواسط السبعينيات الميلادية للقرن العشرين بـ”الصحوة الإسلامية” والتي لاتزال تتفاعل سلبياً وتفتح مآلات المنطقة العربية على مصائر إرهابية عدمية وكارثية، في غياب ذلك الإصلاح الديني الضروري. إنّ من طبيعة التفكير “المتدين”: البحث عن مثال أو نموذج  لقياس حيثية الأفكار والأشياء ولاشك أنّ تلك الطبيعة كانت متمثلة في جميع تيارات الفكر العربي المعاصر.

فإذا ما أخذنا الجانب السياسي نموذجاً، سنجد أنّ تجربة الإخوان المسلمين لسنة واحدة في حكم مصر العام 2013 بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) العام 2011 كانت أكثر من كافية لتبين ذلك النمط من التفكير المتدين ذي الطابع الأوتوقراطي في مقاربة واقع  ثوري معقّد ومتحول، كان في أمسّ الحاجة لتفكير مشترك من جميع القوى السياسية، كأولى  مقتضيات النظر العقلاني.

لكن، في الوقت ذاته، دل تشتت القوى السياسية الأخرى (حيث شوّش عليها ذلك التشتت رؤية المصير السياسي في مواجهة النزوع الأوتوقراطي للإخوان) أيضاً، على ذات نمط التفكير “المتدين” الذي يظهر هنا، مرة أخرى.

حتى اليوم، لاتزال تيارات النخب والقوى السياسية العربية تتعاطى بذلك النمط من التفكير“المتديّن” دون أدنى عبرة يمكن أن تستفاد  من تجارب الماضي المرير، ما دل، بعد ذلك، (إلى جانب الطبيعة المتدينة لنمط التفكير ذاك) على قابلية التماهي مع انعكاسات زمن الاستقطاب والحرب الباردة؛ أي ذلك الزمن الذي ضخَّ ايماناً  جديداً، لليمين واليسار نحو إعادة آليات إنتاج النماذج المأزومة ذاتها.

هكذا يمكننا، على سبيل المثال العثور، على سبب وجيه لغياب ترجمة كتاب مهم مثل كتاب “أسس التوتاليتارية” للفيلسوفة السياسية الكبيرة “حنة آرندت”، الذي لم يترجم إلا بعد نهاية الحرب الباردة العام 1991 لأن التحديق في إمكانية مستقلة لمحاكمة الحقبة السوفياتية وتأطيرها ضمن نقد سياسي في زمن الحرب الباردة، لم يكن متصوراً في سياق النسق الأيدلوجي لليسار العربي. وإذا ما بدا أن الإشكالية راهنة، حتى اليوم ، في مسار إعادة تجديد الانسداد والتمانع الذي تخضع له الحياة في المنطقة العربية؛ أي امتناع السياسة (الذي بدوره يتسبب في امتناعات كثيرة محايثة لجوانب الحياة الأخرى) فإن سبب ذلك، في تقديرنا، يرجع إلى استمرار نمط التفكير “المتدين”  في مقاربة الأفكار عبر البحث عن مثال للقياس، إما من الماضي، كما يفعل الإسلامويون، أو من الحداثة كما يفعل الحداثويون.

لمحمد جميل أحمد.

حفريات-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate