من معرفة الحداثة إلى مشكلة الحداثة كقيمة كونية(١).
إن مساءلتنا لمسألة حدود الكونية والخصوصية لمشروع الحداثة الغربية، يتأتّى من مُسؤّغ جملة التحوّلات الكبرى التي حايثت تجربة هذه الحداثة، ونقلتها من كونها بديهية أو حقيقة يقينية إلى مشكلة وعائق ومآل عدمي ومأساوي، أو بعبارتنا : من معرفة الحداثة إلى مشكلة الحداثة. إن حقبة معرفة الحداثة تختصّ بانجذاب نحو مبادئ وأسس ومعايير ومُثُلا رسمتها خُطاطة التّنوير وانفعالات العصر الحديث، هذا الانجذاب سببه النّجاحات التي انبجست مع تحوُّلات العصر الحديث، أي نجاح العقلانية والرّصد التّجريبي للعالم، ومصفوفة المنافع التي حصل عليها الإنسان الغربي من خلال غزوه العقلي للطّبيعة. وحقيق بنا القول؛ أنّه نجاح لا يقارن إلا بالحقبة التي سبقت حقبة العصور الحديثة، إنُّه نجاح يُقارن ويفاضل بين أسلوبين من أساليب الحياة، أسلوب العصور الوسطى الزّاهد في خيرات هذا العالم والمحتقر لقيمتها الحسية، والباحث عن القيمة الكبرى في العوالم الأُخروية، وبين هذا الأمل والأفق الجديد التي استعاد للأرض قيمتها وللعالم المادي مجده الضاّئع، وللعقل فضاءه الحقيقي الذي يشتغل فيه، ونظرا لهذا المسعى الامتلاكي أضحت الحداثة بمبادئها : الإنسان والعقل والدّنيا ، تمارس إغواء لا نظير له في أفق العالم، وتبدّلت تبعا لهذا معاني الأشياء وقيمتها أيضا، تبدّلت قيمة ودلالة العالم ودلالة الإنسان ودلالة كافة العالم الثقافي بما يحتويه من رؤية إلى العالم وفنون وأخلاق ونظم اجتماعية وسياسية، أي أن الملمح الجوهري هو التَّأويل المادي المتحالف مع العقلاني للعالم.
إلا أن هذا التوهّج لم يحافظ على بريقه، وأناشيد الأمل الواثقة في المستقبل استحالت بكائيات حزينة، وهذا ما أسّس لحقبة أخرى هي حقبة : مشكلة الحداثة بدلا من حقبة معرفة الحداثة، إنها حقبة لا تمجّد الحداثة الغربية وأسسها، بقدر ما تنقض هذه الأسس وتُبصر فيها منابع المآلات العدمية والطّرق المُضلّلة التي سار عليها إنسان الحداثة معتقدا في كبريائه ومترنّحا بخيلائه الذي ظهر في حقيقته، وذلك من جهة كونه وعيا زائفا، وكبرياء مُصطنعا، وعقلا بائسا تعب من الحياة وفقد بوصلته بعد أن كان مرتكزا على الرؤية الدّينية. إنها أعراض العدمية وثقافة النّفي التي عبّرت عن نفسها في فلسفات التّشاؤم والمأساوية، من هنا استفاق العقل على كوارثه الإيكولوجية والبيولوجية واستفاق أيضا على إضاعته لكنوز القداسة ومنابع المعنى والقيم، وللأوامر الأخلاقية ذات الجذر الرّوحي الدّيني، وضمن هذا الإطار تشكّل جهاز اصطلاحي مليء بدلالات الأفول والاكتئاب كالانحطاط والأزمة والكارثة والانهيار والترَّاجع والدّروب المظلمة والقوى اللاّواعية و دوار العقل وغيرها، وبسبب هذا لم تعد الحداثة الغربية نموذجا يحتذى في العلم والعمل، وبدت أعراض التصدُّع، حيث أزمة الذّات مع فرويد، وأزمة أسس العلم الحديث وظهور الفلسفات اللاّعقلانية والعبثية والوجودية، واستعادة فلسفة الدّين لنشاطها مرّة أخرى.
وبسبب هذه الأزمات والإشكالات فقدت الحداثة مرتكزاتها وتراجعت مقولاتها النَّظرية وممُكناتها التأويلية، إلا أن مساءلتنا إلى هذا المستوى تسائل مسارات الأسس الابستمولوجية الكبرى للحداثة، وأن على مشاريع الحداثة المختلفة والتي تسعى إلى النّهوض والحركة، أن تتجنّب هذه الأسس وتبني لنفسها أسسا أخرى تنتفع بها الإنسانية في عاجلها وآجلها، بخلاف مسلكنا التَّساؤلي المتجه بشكل مقصود إلى نقد فكرة الكونية التي تبشّر بها الحداثة نفسهاـ ويبشّر بهذا الزّعم المتبني لمقولاتها في الخطاب العربي المعاصر، أي أن متغيّانا هو الكشف عن خصوصية الكونية الغربية وعن تجذّرها في انتماءاتها الثقافية، وفي المقابل نصيب الكونية في الحداثة وما المشترك الحداثي الذي ليس مخصوصا غربيا خالصا، بقدر ما هو الوشيجة التي متى كانت في أمة وعملوا بها، قاموا إلى الحركة والعطاء والتجدُّد.
أولا مبرّرات الموضوع :
ثمة مبرّرات جمة دفعت بنا إلى التَّشاغل على هذا الموضوع بحثا واستشكالا ومن أقوى هذه المبرّرات :
1- ضبابية مفهوم الكونية والخصوصية على حدّ سواء، حيث جرى الاعتقاد بفعل هيمنة النّموذج الحداثة الغربي، أن الكونية هي النّموذج الحداثي الواقعي، الذي من الأقوم للثقافات الأخرى أن تسلك مسالكه في التّحديث والقيام الحضاري، في حين أخذ مفهوم الخصزصية دلالة ليست محمودة، بوصفها ترادف الإنغلاق والرّفض لأيّة ضيغة تثقافية أو تواصلية مع الخصوصيات الأخرى.
2- تكاثر الاعتقاد بأن الكونية تضاد الخصوصية، وإقامة تقابلات ضدّية بينهما، حيث أن الكونية تقتضي الكلية والعالمية، في حين أن الخصوصية تقتضي الانكفاء والانغلاق وعدم إقامة صلات تعارفية أو تعاونية بين أنماط الثقافات المختلفة.
3- هيمنة أشكال من الممارسة الثقافية تحت يافطة الحداثة، تقتضي التّفكيك والتصدّي لها، هذه الممارسات هي ممارسات انفصالية، أي منفصلة عن التّوجيه القيمي نحو المقاصد المتعالية والمشبعة بالإيمان، هذه الهيمنة تتمظهر لنا في : الاستتباع الثقافي والتّخريب الثقافي والتّنميط الثقافي، وجميع هذه المظاهر .
4- معرفة المنظومة الحداثية على حقيققتها، بالكشف عن جوانب الكونية أو المشترك الإنساني فيها وجوانب الخصوصية، لأنّ ما يتبدّى لنا مُجديا في مشروع الحداثة، هو وصفين أساسين : الإنبثاق من الذّات، والتّراكمية، فالوصف الأول يعني أنها كانت حداثة داخلية، لم تستلف معياريتها من ثقافة أخرى، إنّما استخرجتها من ذاتها، أما التراكمية فتعني الانتقال ومبارحة الوضع الحضاري نحو وضع حضاري آخر يعلوه تقدُّمُ. وهذا هو ما تتأسّى به إرادة المجتمعات التي تريد القيام والأخذ بقوة ذاتها نحو الحضارة والارتقاء.
ثانيا الكونية في الحداثة :
دلالة العبارة الحقيقة، التاريخ : ثمة مدخل منهاجي ضروري من ثقابة الرأي وجودته الإشارة إليه، هو مفهوم الكونية في دلالتها الثَّقافية الروّحية قبل أن يلتحم هذا المفهوم بتجربة الحداثة الغربية لكي تمسك به وتعبّر عن نفسها من خلاله، وسنسلك في تعريفنا للكونية دلالاتها الإجرائية التي تنسجم مع مسارات التّحليل في هذه المقالة، لا في معانيها المتشعّبة في المعاجم اللّغوية والاصطلاحية، ذلك أم معنى الكوني يستتبع معه معنيين اثنين هما تواليا : الكلية والعالمية، “والمراد بالكلي ما يصدق على جميع أفراد الإنسان من حيث هي كائنات عاقلة، وضدّه الجزئي؛… والمراد بالعالمي ما يصدق على جميع أقطار الأرض من حيث هي دول قائمة، وضدّه المحلّي “.
وإذا ماثلنا هذه المحدّدات مع تجربة الحداثة، فإنّنا نقول : أن الحداثة كلية تصدق على جميع أفراد الإنسان من جهة ما هي كائنات عاقلة، وواضح هنا أن مركز هذه الوحدة هنا هو العقل بما هو وصف مخصوص بالإنسان، يماثل توحدهم في الطّبيعة البشرية. أما القول بالعالمية فمقصوده الإشعاع من الغرب نحو بقيّة الأقطار الأخرى، لأنّه لما كانت الضّمانة في العقل كأساس في وحدة الطبيعة الإنسانية، فإنّه لا فرق بين منشئها في الغرب وتلقّيها عند بقيّة الأقطار الأخرى، وهذا على وجه التّحديد ما قصده ” جون بودريار ” في مقالته إلى الموسوعة الفلسفية من أجل تفهيمه للنّاس معنى الحداثة من حيث هي ” نمط حضاري خاص يتعارض مع النّمط التقليدي، أي مع كل الثقافات السابقة عليه أو التّقليدية، فمقابل هذا التنوّع الجغرافي والرّمزي لهذه الأخيرة، تفرض الحداثة نفسها باعتبارها شيئا واحدا متجانسا، يشع عالميا من الغرب”.
واضح من هذه الدّلالة للكونية، كيف ترى تأسيسها – أي هذه الكونية- على وحدة العقل والأصل الغربي لهذه الحداثة، حيث تسلك الثقافات الأخرى هذه المسالك الغربية في مشاريعها التّحديثية، وتكون مقاصدها الكبرى التّماهي مع هذا النّمط الحضاري الذي لا يعتدُّ كثيرا بقيم الماضي التي تكون من معوّقات هذا الإنجاز، بخاصة وأن تجربة الغرب مع ماضيه الثقافي هي تجربة ” مخيال الألم “، لأنّه لم يجد في هذه القيم مُنْهِضاتَ نحو الارتقاء في سلّم الكمال الإنساني بدلالتيه المعرفية والسّلوكية.
هذا من جهة التَّرابط بين الكونية والعقلية والحداثة، بالمعنى الذي جرى تلازمه مع أفق التَّجربة الغربية في الحداثة، لأن هذه الحداثة قد أمسكت بالكوني وعبّرت عن نفسها من خلاله، في حين أن النّزوع نحو الكونية ظاهرة منتشرة في التاريخ الثقافي للإنسان، بل إنّها ملازمة له ولأفقه الوجودي، فأيّة تجربة إنسانية بإمكانها أن تطوّر مفهومها للكوني الذي يصاحب تجربتها في العالم، أي خصوصيتها الرّوحية، بما يجعلها أفقا وجوديا مخصوصا تنجذب نحوه الأنماط الثقافية المتعاصرة له، أو تتعايش معه على نحو مختلف ومتوادد ومتآلف ” من أجل ذلك، علينا هنا أن نتابع أفكار غودمان Goodman عن أن ” العالم يكون على أوجه عدّة”، ومن ثمة أن نقبل ب ” تعدد العوالم”. فالبشر لا يصفون ما يحيط بهم على نحو مختلف إلاّ لأنّهم يرون العالم بشكل مختلف، صورة العالم هي أمر يتغيّر ويتعدّد. وإن تعدد العوالم هو الأفق الأنطولوجي المناسب لمعنى الكوني … ولذلك لا تحتمل أية ثقافة من معنى الكوني إلا بقدر ما تحتمل من معنى التعدّد”.
من هنا، فالكونية ليست فرض نموذج حداثي كلي وعالمي، تنفعل به الخُصوصيات الثقافية الأخرى، إن الكوني جملة من الخصوصيات الثقافية التي تتجدّد بالتلاقي وتموت بالتّنافر والتّباغض والتحاسد، وأن الملمح الجوهري للكونية هو المقدرة على الكون ضمن الأفق الكوني، هذا الكون ليس له محدّد واحد، أو معايير واحدة، لأن النجاح المادي والاقتصادي الذي لازم تجربة الحداثة الغربية، قد أوهم أن المعيار للكون في مستوى الكونية هو حفز الهمم من أجل تأويل العالم اقتصاديا، وليس هذا على التحقيق إلا النّموذج الحداثي الغربي الذي ربط بين الأفق الكوني والازدهار الاقتصادي، والحقيقة تطالعنا بالدّروب الرُّوحية المسدودة التي أنتجها، هذا التّأويل المادي للعالم.
هكذا، إذن يمكن الولوج مفهوميا إلى دلالة الكونية بمعناها المُنفصل، أي منفصلة عن تجربة الغرب التي أمسكت بالكونية كأفق إنساني معاش، ورتّبت بيتها التأويلي تبعا لرؤيتها هي . إن الكونية لا تعني الواحدية الثّقافية، وإنما صيغة من صيغ الوجود في العالم، تشبه الفُسيفساء الفنّية الجمالية، التي تختلف لكي تقدّم نموذجا جماليا يبعث على الرّوعة والإعجاب، إنّها تشترك أيضا في رصيد القيم المعنوي، فهي تبعا لهذا، كونية القيم المعنوية الإيمانية.
أي ثمّة صلة بين الكوني والمشترك، عبّر عنه فلاسفة الرّاهن بتعبيرات مختلفة، تدل بصورة جوهرية عن إخفاق النُّموذج الكوني الحداثي الغربي الذي كان يشاهد الصّورة من الدّاخل، من هذه التعبيرات “الكوسموبوليطيقية والضيافة الكونية”، كانط و”الكينونة معا في العالم” و” العيش معا” و” المسؤولية إزاء الغير” (ليفيناس) و” مبدأ حسن الظّن” principe de charité، و”إيتيقا النّقاش” و”الجماعة اللغوية المتكونة من متحاورين جيّدين”.
لعبد الرزاق بلعقروز.
اسلام اونلاين-موقع حزب الحداثة.