حداثة و ديمقراطية

المعرفة و مصادرها(١٩).

مواقف الفلاسفة من الوحي
إذا اعتبرنا اليونان مهداً للفلسفة، فسنبدأ عرضنا التاريخي من مواقف فلاسفتها تجاه الوحي، وسيأتي ذكر نشأة الأديان والأساطير هناك في مقال الوثنية، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن ما وصلنا من تراث فلاسفة اليونان قد لا يدل في الظاهر على أن الوحي بلغهم في ظل سيادة الأساطير على المشهد، ولذلك لم يصلنا من تراثهم الفلسفي شيء عن البحث في مسألة الوحي، سواء في المرحلة العقلانية الأولى على يد طاليس وأنكسيماندر، أو في مرحلة السفسطة، أو حتى في مرحلة سقراط ومن بعده ممن أعادوا الاعتبار للعقل، وذلك بالرغم من إيمانهم بوجود إله خالق من منطلق الضرورة العقلية. لكن التحقيق يرجح أن الأساطير الإغريقية نفسها لم تكن سوى تحريف لرسالة الوحي، حتى انقلبت الملائكة إلى آلهة تسكن جبل الأوليمب، ومع ذلك فالأثر الباقي في تراث الفلاسفة يبدو خاليا من آثار الوحي لأنه لم يبق لديهم منه شيء.

وقد أدى افتقار الإغريق للوحي إلى تخبط واضح في المسائل الميتافيزيقية، فيقال إن سقراط ناقش مع مجموعة من أتباع فيثاغورس قضية خلود النفس البشرية، حيث حاولوا أن يدافعوا عن نظريتهم في التناسخ انطلاقا من خلفيتهم الباطنية، فاثبت لهم سقراط تهافت النظرية، فاقترحوا القول بخلودها بعد موت الجسد، فناقشهم أيضا في هذا الطرح ولم يتمكنوا من البرهنة عليه، وعندئذ سكت الجميع برهة، وقال أحدهم ويدعى سيمياس إن العلم بحقائق هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا، ومن الجبن اليأس في البحث حتى الوصول إلى آخر حدود العقل، وإذا لم نستوثق من الحق فعلينا أن نكتشف الدليل الأقوى ما دام أنه لا سبيل لنا إلى بلوغ اليقين بالوحي الإلهي [يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص91].

وعندما انتشرت المسيحية في أوروبا، رأى قسم من الفلاسفة أن الفلسفة والدين متغايران ولا يمكن جمعهما، وأن الدين لا يُعتنق إلا بالإيمان الأعمى دون تعقل، بينما رأى غالبية فلاسفة القرون الوسطى أن الوحي والعقل كلاهما من الله فلا يمكن أن يتعارضا، وقالوا إن ما جاء في الأناجيل من غيبيات لا يمكن للعقل أن يدركه بنفسه، فعليه أن يصدّق به كما جاء في تلك الكتب.

وفي القرن الثالث عشر بدأت فلسفة أرسطو العقلانية بالانتشار، واستفاد منها القديس الإيطالي توما الأكويني في محاولة إثبات ما جاء في الأناجيل بالمنطق، ثم ظهر من الفلاسفة من يقدم العقل على النقل ويرى أنه في حال تعارضهما فلا بد أن يكون العقل هو الأولى، ومن هؤلاء جون سكوت وآلان ديليل. وعندما انطلق عصر النهضة في القرن الرابع عشر كان الفلاسفة قد حسموا أمرهم في الفصل بين الفلسفة واللاهوت، واعتبروا أن “الوحي” مناقض للعقل ولا يدعمه الدليل العلمي.

ويجدر بالذكر هنا أن الوحي الذي كان موضع البحث لم يكن هو إنجيل عيسى عليه السلام، بل مجموعة الأناجيل الأربعة التي أقرها مجمع نيقية في القرن الرابع الميلادي، وقد فقد فلاسفة عصر النهضة الثقة بها عندما شرعوا في نقدها تاريخيا وتبين لهم احتواؤها على الكثير من التناقضات، فضلا عن عدم وجود أي دليل على صحة نسبتها إلى عيسى نفسه [انظر مقال المسيحية]، لذا أقر بعض الفلاسفة في القرن السابع عشر وما بعده -مثل سبينوزا- بأن هناك وحيا نزل بالفعل على النبيين موسى وعيسى عليهما السلام إلا أن الكتاب المقدس المعترف به من قبل الكنيسة ليس سوى نسخة محرفة، بينما قرر فلاسفة نزعة “التنوير” التخلي عن الإيمان بالوحي والاكتفاء بمصدرية العقل أو الحس أو الحدس.

ومن الواضح أن نقد فلاسفة الغرب للوحي صادر عن اعتقادهم بأنه يقتصر فقط على الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، بينما لا يكاد يتعرض أحدهم للقرآن في بحثه، وقد وضعوا الأديان كلها في سلة واحدة من خلال منظورهم للدين من زاوية تراثهم اليهودي-المسيحي فقط، ولم يميزوا بين القرآن وغيره لانطلاقهم في دراسته -إن فعلوا- من أبحاث المستشرقين الذين أقر معظمهم أن القرآن ليس وحيا إلهيا أصلا.

وفيما يتعلق بالإسلام، فسنبحث في مقال مستقل مرجعية الوحي الإسلاميومصداقية نسبته إلى الله، ونكتفي هنا في سياق العرض التاريخي بالإشارة إلى أن مواقف فلاسفة الإسلام من مصدرية الوحي للمعرفة تنوعت كتنوع المواقف في أوروبا، فكان المعتزلة يحاولون إثبات حقائق الوحي بأدوات المنطق مع تقديم العقل عند “التعارض” مع النقل، بينما كان الأشاعرة يستخدمون الأدوات نفسها لإثبات عدم التعارض، كما وضع ابن رشد كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” لإثبات توافق العقل والنقل من خلال مفهومه الخاص للعقل والذي يقتصر على المنطق الأرسطي، ثم وضع ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي كتاب “درء تعارض العقل والنقل” ليثبت أيضا عدم التعارض، ولكن دون قصر العقل على فلسفة أرسطو.

السبيل-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate