حداثة و ديمقراطية

المعرفة و مصادرها (١٧).

ثم أصدر  الفيلسوف الأمريكي جون سيرل كتاب “العقل واللغة والمجتمع” الذي يعد من أهم الكتب المتخصصة في الانتصار لموقف الإنسان العادي، وقال فيه إن معيار المواقف التلقائية هو الثبات البشري العام على التمسك بها خلال التاريخ الطويل المليء بالدواعي الكاشفة للحقيقة، فطالما أن هذه القضايا لم تُكذب مطلقا فهذه قيمة موضوعية، كما اعتبر أن المواقف التلقائية سابقة على أي رؤية ذوقية فهي تتمتع بالكثير من الموضوعية.

ويعد الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين (توفي عام 1951م) من أهم المفكرين الذين لفتوا النظر إلى أهمية المجتمع في تكوين المعرفة من خلال دراساته في اللغة، وقد أكدت العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة نظريته، فكان ينكر إمكان تمييز المعطيات الحسية والحالات النفسية دون ربط مجتمعي لكل حالة بلفظ معين، فالإنسان يتعرف على نفسه وعلى العالم من خلال علاقة إشارية موضوعية، ومن المستحيل عليه أن ينشئ لغة خاصة به من خلال المعطيات الحسية. والمعيار الأصلي هو الجماعة لا الذات، فالجماعة توفر له المعرفة الصحيحة بعلاقات واضحة ورمزية بشكل أفضل بكثير من المعيار الفردي الذي يفهم به الطفل الوليد قبل أن يتعلم اللغة، .

و بحسب فتغنشتاين فنحن نتصور الألم من خلال اللغة، وبدون لغة سنتألم دون وعي بالألم. وبالخلاصة فلا يمكن الحديث عن أي “معقولية للعالم” بدون قواعد معيارية نكتسبها من الجماعة، ولا يمكن لأحد أن ينشئ لغة خاصة به (استبطان) دون استناد إلى معايير عامة يفهمها الناس.

ويقول فيلسوف العلم الأميركي المعاصر إرنست ناغل إن اللغة التي نستخدمها لوصف تجاربنا المباشرة هي اللغة المعتادة للتواصل الاجتماعي، فتطابق المباني اللغوية الأساسية في كافة المجتمعات مع اختلاف التجارب والمناخ والمعتقدات يبرهن على أن هناك بنية إنسانية عامة.

وهذا يعني أن المجتمع هو الذي يحدد شروط معرفتنا، ويوجه حواسنا منذ طفولتنا لنرى العالم كما نراه، والحاجة النفسية العميقة (الفطرية) هي التي تدفع الطفل للمسارعة في اتباع القواعد الإنسانية العامة وتعلم طرق التصنيف الإنساني والإيمان باطراد الحوادث. وقد لخص ناغل شروط تحقق الفطرة في نقطتين: أن تكون شرطا للعبة الجماعة البشرية، وأن تعبر عن حاجة اجتماعية ونفسية.

ويستنتج العالم البريطاني “ألفرد جول آير” أن حواس الإنسان ليست خاصة به بل محكومة بالتجربة الجماعية العامة، ولذلك لا نقول عن شيء إنه قابل للإدراك إلا إذا كان من الممكن وصفه من خلال مجموعة أشخاص على الأقل [The problem of knowledge, p.85].

وبناء على هذه المعطيات الحديثة، يمكن أن نجري بعض التعديلات على نظرية كانط بشأن “العقل الفعال” التي تعرضنا لها سابقا، فقد كان يرى أن المبدأ الكلي الضروري لا يصدر عن حس خالص أو معطيات حسية بل هو من طبيعة العقل الإنساني الفردي، والتجارب الحديثة تثبت أن القاعدة لا يمكن أن تنشأ من عقل واحد ولو كان فعالا، وأن الطفل لا يكتسب اللغة من ذاته بل في إطار اجتماعي تقبله الغريزة بمجرد الاحتكاك بالقواعد.

ومن الخطأ الخلط بين مغالطة الاحتكام إلى الأكثرية [انظر مقال المغالطات المنطقية] وبين استنباط البنية الطبيعية لإدراك البشر من خلال اتفاقهم الفطري رغم اختلاف الظروف والعادات بين المجتمعات.

السبيل- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate