اصلاح ديني

الإسلام العامُّ كتِرياق للعُنف؟(٢)

لقد ساهمت مستويات التَّعليم المرتفعة وسهولة التَّنقُّل والسَّفر وبروز وسائل الاتِّصال الحديثة في كلِّ أرجاء البلاد ذات الأغلبيَّة المسلمة؛ في ظهور مجالٍ عامٍّ يُتيح لأعداد غفيرة من الأشخاص العاديِّين، وليس فقط للنُّخَب السِّياسيَّة والاقتصاديَّة المثقَّفة، قولَ كلمتها في القضايا السِّياسيَّة والدِّينيَّة. ونتج عن ذلك ظهورُ تحدِّيات جديدة تواجه الاستبداد وتشظِّي السُّلطة السِّياسيَّة والدِّينيَّة، وفتح المزيد من النِّقاشات المتعلِّقة بمسألة «المصلحة العامَّة»، الَّتي تعتبر من المفاهيم الأساسيَّة في التَّقاليد الفقهيَّة الإسلاميَّة. وفي نفس الوقت؛ أصبحت هذه النَّزعة غير متكافئة، وفي حالات عديدة؛ مُتناقضة (masud 2005).

يُحيل «الإسلام العامُّ» على استحضارات متعددِّة للإسلام من قَبِيل الأفكار والممارسات الَّتي يشارك بها الباحثون الدِّينيُّون والسُّلطات الدِّينيَّة المنتحلة لهذه الصِّفة، والمثقَّفون العلمانيُّون والطُّرق الصُّوفيَّة والأُمَّهات والطُّلَّاب والعمَّال والمهندسون، وآخرون كثيرون في النِّقاشات المدنيَّة والحياة العامَّة. وبهذه الحمولة العامَّة؛ يصنع الإسلام الفارق في صياغة السِّياسات والحياة الاجتماعيَّة لجزء هائل من العالم، وليس فقط للسُّلطات الدِّينيَّة المنتحلة لهذه الصِّفة. والإسلام يصنع هذا الفارق، ليس كنموذج لأفكار ومُمارسات مُعيَّنة فحسب، بل أيضاً كمنهج لتصوُّر وقائع سياسيَّة بديلة، وكفاعل يتعاظم دوره على الصَّعيدَين الإقليميِّ والدُّوليِّ، وبالتَّالي؛ يتمكَّن من إعادة رسم الحدود الثَّابتة بين الحياة الاجتماعيَّة والمدنيَّة.

لم تكن كلُّ هذه التَّوجُّهات خاصَّة بالعالم الحديث؛ فبإمكان المرء الاطِّلاع على التَّقرير الجذَّاب لمايكل كوك (2000) عن «الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر» في الفكر الإسلاميِّ، وهي دراسة تنطلق من القرون الإسلاميَّة الأولى لتشمل الحاضر. وبالإمكان اعتبار هذا التَّقرير التزاماً لكلٍّ من الفقهاء المسلمين، وجمهور واسع من المسلمين بقضايا ترتبط باهتمامات وشؤون المجتمع وسلوكه. وهذه الاهتمامات قد ساهم في تشكيلها كلٌّ من التَّطوُّر التَّاريخيِّ وتمثُّل الماضي في البلاد ذات الأغلبيَّة المُسلمة.

تدَّعي العديد من الأصوات الجديدة الصَّاعدة وقادة الحركات المتواجدة داخل الفضاء العامِّ المتناسل في العالم الإسلاميِّ المعاصر -وهو فضاءٌ تواصليٌّ ومادِّيٌّ في نفس الوقت- القدرة على تأويل أو استلهام نصوص وأفكار دينيَّة أساسيَّة، والاشتغال في سياقات محلِّيَّة وعبر وطنيَّة. إلَّا أنَّ هؤلاء المؤوِّلين الجُدُد لكيفيَّة تشكيل الدِّين أو للكيفيَّة الَّتي ينبغي أن يُشكِّلَ بها الدِّين المجتمعات والصِّراعات السِّياسويَّة؛ غالباً ما يعانون -شأنهم شأن نظرائهم في حركة تضامن البولنديَّة وحركات اللَّاهوت التَّحرُّريَّة في أمريكا اللَّاتينيَّة في الثَّمانينيات- من قصور في المعرفة الدِّينيَّة والفلسفيَّة الَّتي ميَّزت الباحثين الدِّينيِّين الَّذين أسَّسوا لمثل هذه النِّقاشات في العصور السَّابقة. وعلى الرَّغم من ذلك؛ فقد أفلح هؤلاء القادة الجُدُد والنَّاطقون الرَّسميُّون في الاستيلاء على مُخيِّلة عدد هائل من النَّاس. وهذه النَّزعات؛ غالباً ما تقوِّي الرَّوابط بين الجماعات المسلمة في البلاد ذات الأغلبيَّة المسلمة والجاليات الإسلاميَّة في كلٍّ من أوربا وأمريكا الشَّماليّة، وأصقاع أخرى.

الإسلام العامُّ في الواقع:

تتجاوز قضايا وأطروحات الفكر السِّياسويِّ الإسلاميِّ أكثر فأكثر الخصوصيَّات المحلِّيَّة أو الإقليميَّة. وبالتَّالي؛ فإنَّ «نشر» الإسلام في صيغته المعاصرة تمتدُّ جذوره إلى الممارسة، وليس إلى الإيديولوجيا الرَّسميَّة (adelkhah 2002). لقد خلق نشرُ الإسلام فضاءات اجتماعية جديدة، بحيث ازدادت وتيرة هذا التَّوجُّه بصورة ملحوظة منذ منتصف القرن العشرين، ومهَّدَ لتأويلات منفتحة ومختلفة للهويَّات السِّياسيَّة والدِّينيَّة.

خمثل هذه الممارسات وما نتج عنها من فضاءات اجتماعيَّة؛ تستلزم الارتباط العاطفيَّ والفكريَّ بين الأطراف المشاركة في حلقات تواصليَّة وتضامنيَّة مُتداخلة، وإقامة أَوَاصِر مبنيَّة على الهويَّة والثِّقة. بعض هذه الممارسات ترتكز على الجماعات المحلِّيَّة. وأخرى مُتناثرة جغرافيَّاً تستهدف الجماهير المهيَّأة للتَّقبُّل. وكمثال على ذلك؛ يمكن أن نسوق استخدام البريد الإلكترونيِّ من طرف طلَّاب الجامعات الإندونيسيَّة الَّذين تمكَّنوا بفضل تنسيقهم من تنظيم احتجاجات في كلِّ الفضاءات الجامعيَّة على امتداد البلد بأكمله. وساهمت هذه الاحتجاجات في إسقاط الرَّئيس سوهارتو في بداية عام 1998. لذلك؛ فإنَّ مثل هذه الممارسات الحديثة وتكنولوجيَّات الاتِّصال الجديدة يمكن أن تخلق قواعد جديدة وفاعلة ومتناثرة جغرافيَّاً للتَّعبئة الفعَّالة. ولكن يمكنها أيضاً أن تُشكِّل تهديداً للتَّسامح والمجتمع المدنيِّ من خلال تسهيل دعاية الجماعات المتطرِّفة ودعواتها مناصريها للقيام ببعض الأفعال (hefner 2003).

لديل ايكلمان.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate