اصلاح ديني

الإسلام العامُّ كتِرياق للعُنف؟(١)

الإرهاب والنِّقاش العامُّ:

الآن وأكثر من أيِّ وقتٍ مضى؛ أصبح على المسلمين – سواءٌ كانوا متديِّنين أو علمانيِّين- أن يواجهوا قضايا الهويَّة والعنف من خلال نقاش عامٍّ مفتوح. قبل أن يأخذ عدد القتلى بالعراق في التَّزايد منذ شنِّ الحرب الاستباقيَّة ضدَّ العراق عام 2003. لقد كانت كولومبيا تتصدَّر كلَّ بلاد العالم في أعداد الوفيَّات النَّاتجة مباشرة عن الإرهاب، تليها سيريلانكا الَّتي لم تكن بعيدة عن المرتبة الأولى. ومع ذلك؛ فقد أبَت التَّمثيلات العامَّة إلَّا أن تضع الشَّرق الأوسط ذا الأغلبيَّة المسلمة في طليعة بؤر الإرهاب. فقد كانت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 وتفجيرات تشرين الأول/أكتوبر2002 ببالي بإندونيسيا وأحداث الهجومات الانتحاريَّة على طريقة «الكاميكاز» في أيار/مايو 2003 بالمملكة العربيَّة السُّعوديَّة والمغرب، وتفجيرات مدريد 11 آذار/مارس 2004، وتفجيرات وسط المدينة بلندن في 8 تموز/يوليو 2005، وهجمات بومباي 11 تموز/يوليو 2005، فضلاً عن التَّفجيرات وأعمال العنف المتكرِّرة في أماكن أُخرى، مثل القدس وبغداد وغزَّة وأيوديا بالهند، كافيةً لاختبار حدود التَّحضُّر والثِّقة لدى الرَّأي العامِّ العالميِّ، ونحت صورة في المخيِّلة العالميَّة عن إمكانيَّة وجود الإرهاب «الإسلاميِّ». وما يدعو للسُّخرية؛ هو أنَّ كلمة «كاميكاز» قد أضحت الكلمة اليابانيَّة الأكثر استخداما لدى النُّخبة المتعلِّمة العربيَّة. فهي الكلمة المفضَّلة لدى الجرائد المغربيَّة والصُّحف العربيَّة عبر الوطنيَّة كالشَّرق الأوسط (لندن) مثلاً، حيث صارت بديلاً لإطلاق صفة «الشُّهداء» أو «الانتحاريِّين» على مُنفِّذي مثل هذه الهجمات. فاختيار هاتين اللَّفظتين يحمل دلالات متباينة في مجال الصِّراع السِّياسيِّ من أجل التَّحكُّم في المتخيَّل الشَّعبيِّ (pekonen 1989: 132).

ويهدف مُنفِّذو العمليَّات الإرهابيَّة إلى إعاقة النِّقاش المنطقيِّ حول ردود الفعل الملائمة، وغالباً ما تنجح أعدادهم الصَّغيرة في بلوغ مراميهم؛ عكسَ كلِّ التَّكهُّنات. ومع ذلك؛ فإنَّه من الضَّروريِّ على الباحثين والملاحظين النَّظر فيما وراء الأحداث العاجلة والمزعجة في غالب الأحيان، وتبيُّن التَّوجُّهات والتَّطوُّرات الطَّويلة المدى والَّتي يحتمل أن تُحدِّد سياسات العالم لسنوات قادمة. أقلِّيَّة ضئيلة فقط من المسلمين تستخدم أو تقبل الإرهاب باسم الدِّين، بالرَّغم من أنَّ العديد يرونه سلاحاً للضَّعيف. كما أنَّ التَّبريريِّين يتذرَّعون بكمٍّ هائل وجاهز من الأمثلة على الإرهاب بين الهندوس والبوذيِّين واليهود والمسيحيِّين ومُعتنقي ديانات أخرى. ومع ذلك؛ فإنَّ ممارسات هذه القِلَّة هي الَّتي استحوذت على مُخيِّلة المجتمع السِّياسيِّ العالميِّ، وغيَّرَت ملامح الشُّعور بالتَّهديد السِّياسيِّ. وفي هذا السِّياق؛ لن نتفاجأ بكون التَّيَّارات السِّياسيَّة في البلاد ذات الأغلبيَّة المُسلِمَة غالباً ما تتَّسِم بالعُنف والتَّناقض، ولكن ربَّما يرجع ذلك للأنظمة الاستبداديَّة للعديد من تلك الدُّول. و«الإسلام العامُّ» -وهو مفهوم مُتَّصِل حميميَّاً بالإعلام الجديد والشُّعور المتنامي بالانتماء- ليس بدوره مُستثنَى مِن تلك التَّناقضات، إلَّا أنَّه في الغالِب ما يتَّسم بالفعاليَّة في مواجهة العنف.

الإسلام العامُّ المُعاصِر:

كانت النَّظريَّات السَّائدة عن التَّحديث والحداثة في منتصف القرن العشرين تُسلِّم بتزايد تقوقع الحركات والهويَّات والممارسات الدِّينيَّة في الهامش، وتفترض تلك النَّظريَّات أنَّ أولئك المثقَّفين والزُّعماء الدِّينيِّين المرتبطين بمفهوم الدَّولة الوطنيَّة؛ هم فقط مَن سيواصلون لعب الأدوار البارزة في الحياة العامَّة. والواقع أنَّ الجزم بأفول نجم الخطاب الدِّينيِّ في الحياة العامَّة في أمريكا الشَّماليَّة وأوربا؛ مُبالغٌ فيه. فقد كان خوسيه كازانوفا (1994) أوَّل مَن لاحظ أنَّه مع نهاية السَّبعينيات؛ لم يستطع هذا التَّصوُّر الواسع الانتشار الصُّمود أمام تأثير العديد من التَّطوُّرات الموازية، كالثَّورة الإيرانيَّة وظهور حركة «تضامن» البولنديَّة، ودور اللَّاهوت التَّحرُّريِّ في الحركات السِّياسيَّة في كلِّ أرجاء أمريكا اللَّاتينيَّة، وعودة الأصوليَّة البروتستانتيَّة كقوَّة في الخطاب السِّياسيِّ الأمريكيِّ. وفي العقود الحديثة؛ تنامى اعتناق المسلمين في أوربا لهويَّات مختلفة، فتنامي الإسلام في أوربا على مدار العقود الثَّلاثة الماضية ليس مسألة أعداد فحسب، بل يرجع إلى الوعي المتزايد بمعنى الانتماء للإسلام في أوربا. ويُعدُّ جيل كيبيل من أوائل الَّذين أشاروا إلى ذلك من خلال عنوانه الفرعيِّ المختار بعناية: «الضَّواحي الإسلاميَّة: ميلاد دِينٍ في فرنسا» (1987) les banlieues de l’islam: وبالنِّسبة لبعض الأوربيِّين الَّذين سلَّموا بتراجع عنصر الدِّين في هويَّاتهم العامَّة؛ فقد فسَّروا تنامي الوعي الإسلاميِّ على أنَّه تهديد.

ومهما يكن؛ فإنَّ دور الدِّين في الحياة الاجتماعيَّة وطريقة عيش المجتمع في البلاد ذات الأغلبيَّة المسلمة لم يتراجع أبداً. وهذا لا يعني أنَّ هذا الدَّور لم يتغيَّر أو يتطوَّر في مسارات غالباً ما يُبالَغ في الاستهانة بها مِن قِبَل الملاحظين الغربيِّين، بل من المسلمين أنفسهم (zaman 2002). فمفهوم «المجال الإسلاميِّ العامِّ» بالألمانيَّة (islamische ?ffentlichkeit) لم يقفز إلى الواجهة إلَّا خلال العقد الأخير؛ عندما فطن رينارد شولز (2000 [1994])، في معرض ردِّه على أعمال يورغن هابرماس إلى بزوغ سياقاتٍ تُشكِّل البنية التَّحتيَّة لتواصل وخطابات الطَّبقة المثقَّفة الجديدة، منذ العهد الكلاسيكيِّ للإصلاح الإسلاميِّ في نهايات القرن التَّاسع عشر، مروراً بالتَّحوُّلات البنيويَّة في السِّتِّينيات والسَّبعينيات، إلى الآن.

لديل ايكلمان ترجمة ماهيتاب صبحي منتصر.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate