حداثة و ديمقراطية

الحداثة بين العرب والغرب.(١).

اهتم العديد من المفكرين بدراسة مفهوم الحداثة والاشتغال عليه سواء على مستوى العالم الغربي أو العربي، باعتباره مفهومًا أصبح يطرح نفسه على الساحة الفكرية سواء العربية أو الغربية، حيث حاول كل منهم تعريفها ورصد أهم مبادئها، وذلك لأهداف تختلف من مفكر لآخر، حيث نجد من دافع عنها واعتبرها ضرورة حتمية ينبغي على العالم العربي أن يقبلها بأي شكل كان، وهناك من رفضها معتبرًا أن الحداثة تعني التخلي عن التراث.. ويعد محمد سبيلا المفكر المغربي أحد أهم المفكرين العرب الذين تطرقوا لهذا المفهوم وخصصوا له مؤلفات عديدة.

مفهوم الحداثة عند محمد سبيلا

يعرف محمد سبيلا الحداثة على أنها مجمل التحولات الفكرية التي حدثت في أوروبا ابتداء من القرن 15م لينتقل بعدها للعالم كافة، الشيء الذي جعل هذا المفهوم شاسعًا كالعالم، هذا وقد شملت هذه التحولات مستويات عدة منها القانوني، الاقتصادي، الاجتماعي، الفكري والفلسفي، فانبثقت لنا رؤية جديدة للعالم، وبشكل أكثر تحديدًا، نظرة جديدة للإنسان، للطبيعة وللتاريخ.. فأصبح الإنسان في إطار هذه النظرة هو المركز والكائن الفاعل.

بما أن سبيلا يربط بين الحداثة ومجموع التحولات التي يعرفها العالم، فهو يصنفها في أحد مقالاته كالتالي:

تحولات في المعرفة: حيث أصبحت المعرفة تقنية بعيدًا عن التأمل، تهدف للسيطرة الداخلية والخارجية، وهكذا يتم إضفاء طابع التقنية على جميع أشكال المعرفة ابتداء من العلم والعلوم الإنسانية والثقافة أيضًا.

تحولات في الطبيعة: تغيرت النظرة إلى الطبيعة في العالم الحديث، فأصبح ينظر لها كامتداد كمي هندسي وحسابي خاضع لقوانين الرياضة، فبالنسبة لبرتراند راسل فقد تحولت إلى معادلات رياضية وأشكال هندسية، أما بالنسبة لهيدجر فيرى فقد أصبح ينظر إليها كمجرد مخزن للطاقة قد يتحول لموضوعات قابلة للاستهلاك.

تحولات في الزمن والتاريخ: تغيرت النظرة إلى التاريخ، حيث أصبح هذا الأخير يعتبر سيرورة وصيرورة؛ أي مسارًا حتميًا تتحكم فيه وتفسره مجموعة من العوامل والأحداث الملموسة كالحاجات الاقتصادية للناس وحروبهم وصراعاتهم. أما بالنسبة للزمن فإنه يعتبر أن “زمن الحداثة كثيف، ضاغط ومتسارع الأحداث” لا مكان فيه للماضي.

تحولات في الإنسان: أصبح للإنسان قيمة مركزية نظرية وعلمية، حيث نسب إليه العقل الشفاف والإرادة الحرة والفاعلية في المعرفة والتاريخ باعتباره الذات المفكرة، لكن هذا التصور تعرض للنقد والمراجعة من أجل “تلطيف وتنسيب عقلانيته ووعيه بذاته وحريته وفاعليته”.

هكذا إذن؛ فإن الحداثة عند الدكتور سبيلا هي “ظهور ملامح المجتمع الحديث المتميز بدرجة معينة من التقنية والعقلانية والتعدد والتفتح”.

موقع العرب والغرب من الحداثة

شكلت بعض الأحداث المفصلية الكبرى عتبة الحداثة، وكان أهمها الإصلاح الديني، اكتشاف العلم الحديث، ورسختها أحداث أخرى كالثورة الفرنسية والثورات الصناعية والعلمية خاصة في الفيزياء والبيولوجيا والفلك.. ومن ثم نلاحظ أن مركز هذه الأحداث كان هو أوروبا، أي العالم الغربي، مما يجعلنا نقول أن هذا العالم هو الكيان الوحيد الذي دشن الحداثة لأنه الوحيد الذي “استطاع تحقيق عقلنة ثلاثية الأبعاد: عقلنة المنشأة أو المقاولة الاقتصادية، وعقلنة الإرادة والجهاز البيروقراطي، وخلف وفوق ذلك عقلنة النظرة إلى العالم، أي عقلنة الثقافة انطلاقًا من دينامية تأويل دنيوي للثقافة الدينية التي كانت قد تحولت إلى أيديولوجيا حافزة على التطور”.

إذن؛ لا يمكننا نفي أن العالم الغربي هو أول من عرف الحداثة وتحولاتها قبل باقي المجتمعات، وهذا ما يجعل مجموعة من المفكرين يتبنون الفكرة التي مفادها أن الغرب قد انتقل من مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة، في حين يرى المفكر محمد سبيلا أن ما يعيشه الغرب حاليًا هو مجرد مرحلة ثانية من الحداثة، حيث أن الغرب لازال لحدود اللحظة يعيش على وقع صراع بين ما هو تقليدي وما هو حداثي، بل لازال يطرح مشكل التحديث والحداثة لكن في مستويات أعلى تجاوزت الحد الفاصل[. أي أن الغرب هو في مستويات متقدمة من الحداثة، أصبح يعيشها في مختلف الجوانب سواء المعرفية، العلمية والفكرية.

نجد في المقابل أن العالم العربي لازال على عتبة الحداثة، فمعظم دول العالم العربي تعيش إلى جانب التخلف الاقتصادي تخلفًا اجتماعيًا، تاريخيًا وفكريًا أيضًا، حيث أن العالم العربي قد غابت عنه معظم التحولات الكبرى التي عاشها المجتمع الغربي الحديث من تحولات فكرية وثورات سياسية ومعرفية، كما أنها لم تعرف التحولات الكبرى التي حدثت على مستوى العلوم الإنسانية.

عاش المجتمع العربي كباقي المجتمعات الأخرى على وقع صراع بين ما هو تقليدي وبين الحداثة التي وفدت إليه من مجتمعات أخرى، ويمكن اعتبار هذا الأمر طبيعي ومتوقع لكون أغلب المجتمعات، حتى الغربية منها، عرفت مناهضة للحداثة وعدم تقبل لها في بداياتها وأحيانًا ظهرت حركات مناهضة لها تحت تبرير أنها تخرج المجتمع عن الحدود المؤطرة له، وكان هذا الصراع قويًا في العالم العربي نظرًا لتراثه العربي والإسلامي الضخم، فظهرت عدة تيارات منها من دعا لتبني الحداثة والقطيعة مع التراث، ومنها من رفضها مشددًا على الاكتفاء بالتراث فقط، في حين كانت هناك تيارات توفيقية تحاول الجمع بين الاثنين.

يضيف محمد سبيلا إلى ما سبق، أن الحداثة العربية الوافدة حداثة مبتورة، بل ناقصة ومشوهة أيضًا، وذلك لكونها أولًا قد “اصطدمت بالبنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية العتيقة، مما أفقد الأولى بعض فاعليتها وساهم في تفكيك الثانية” ومن ناحية أخرى لأن الوضعية البنيوية التي يعيشها المجتمع العربي تمنع الحداثة من أن تعطي كل مردوديتها على كل المستويات، “فالنظام الاقتصادي لا يحقق الإنتاجية المطلوبة، والنظام السياسي لا يحقق المشاركة المأمولة، والتقنية المستنبتة لا تحقق الأدائية المطلوبة، وقل هذا عن الأحزاب والجامعات والأيديولوجيات وكل المؤسسات والتنظيمات والقيم التي حملتها الحداثة معها”

إذن؛ لا يمكن لأي كان نفي أن المجتمع العربي لازال لحدود اللحظة على عتبة الحداثة ولم يدخل غمارها بالشكل الصحيح بعد، فهو لم يستطع لحدود اللحظة أن ينتج أو يفرز قوى تحديثية تنخرط في مشروع الحداثة، لم يستطع أن “يفرز نخبًا سياسية أو فكرية تلتزم بالحداثة كمشروع مجتمعي يأخذ بعين الاعتبار المكونات الأساسية للهوية الحضارية العربية الإسلامية في اتجاه تأويلها وتحيينها مع معطيات العصر” 

ولعل هذا يجعلنا نطرح سؤالًا جوهريًا، أين هو المثقف العربي من كل هذا؟ وما دوره؟

لمحمد سبيلا.

عربي22-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate