المعرفة و مصادرها(١٢).
هل يجيب العلم التجريبي على كل الأسئلة؟
شهدت بداية القرن
العشرين ثورات علمية هائلة، ومن أبرزها نظرية النسبية لألبرت أينشتاين، ثم مجموعة نظريات شكلت مفهوما جديدا للفيزياء تحت مسمى الكمّ (كوانتم)، فضلا عن التطور في الطب وعلوم الأحياء، وكان لهذه الفتوحات وآثارها العملية التكنولوجية دور كبير في ظهور العالِم التجريبي في صورة خارقة وكأنه الوحيد القادر على الإجابة على الأسئلة الوجودية بدلا من الفلاسفة، فضلا عن “رجال الدين”، لذا طالب العالم الفرنسي المعروف لويس باستور السلطات برعاية المؤسسات العلمية بصفتها “مؤسسات مقدسة” وقال إنها ستكون “معابد المستقبل”، كما وافقه على ذلك الفيلسوف الفرنسي ليكومت دي نوي عندما قال “إن ثقة الناس بعلماء الطبيعة اليوم هي ثقتهم بالكهنة في العهد القديم” [دي نوي، مصير الإنسان، 1967، ص275].
يقول الفيزيائي البريطاني المعاصر ستيفن هوكنغ في كتابه التصميم العظيم “الفلسفة ماتت… وعلماء الطبيعة باتوا هم حملة شعلة الاكتشاف في رحلتنا نحو المعرفة” [ص 13]، ويقول الفيزيائي الأميركي لورنس كراوس “إن الفلسفة حقل يذكرني للأسف بالنكتة القديمة لوودي آلن (ممثل كوميدي): أولئك الذين لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا يدرّسون، والذين لا يستطيعون أن يدرّسوا يدرّسون الرياضة”.
وبالرغم من إنكار الكثير من العلماء -الذين يحظون بالاحتفاء الإعلامي- أهمية الفلسفة وتنديدهم بها، فإن نظرياتهم الكبرى تقوم أساسا على مواقف أيديولوجية مفلسفة. فعلى سبيل المثال، يقول الفلكي البريطاني كارل ساغان في افتتاحية برنامجه “الكون” Cosmos -الذي حقق أعلى نسب المشاهدات بدعم من شبكة بي.بي.سي- إنه “لا يوجد ولم يوجد ولن يوجد شيء سوى الكون (أي المادة فقط)”، وهذا تعبير فلسفي وليس تصريحا علميا، فليس في وسع العلم التجريبي أصلا أن يجري تجربة مادية تنفي وجود عوالم أو كائنات غير مادية طالما أنها لا تخضع لأدواته، ومقولة ساغان هي تعبير صريح عن جوهر الفلسفة الطبيعية، والتي يعرّفها ستيرلنغ لامبرت بأنها موقف فلسفي ومنهج تجريبي يعتبر أن الوجود محكوم بعوامل عشوائية داخل نظام شامل في الطبيعة.
يقول عالم الوراثة في جامعة هارفارد ريتشارد ليونتن إن “استعدادنا لقبول المزاعم العلمية التي تخالف الحس السليم هو مفتاح فهم الصراع الحقيقي بين العلم وما هو ميتافيزيقي (غيبي)، فنحن نميل إلى صف العلم رغم ما يشوب بعض أفكاره من عبث… والمجتمع العلمي يتسامح مع القصص التي تُقبل دون برهان لأننا ملتزمون مسبقا بالفلسفة المادية، فمناهج العلم لا تجبرنا على قبول تفسير مادي للعالم بل التزامنا البديهي بالمادية هو الذي يجبرنا على إنتاج تفسيرات مادية مهما كانت مناقضة للحدس” [العلم ووجود الله، ص 62].، وليس هناك ما هو أوضح من هذا الاعتراف بتعصب العلماء الماديين للفلسفة المادية على أساس أيديولوجي بحت.
ومن نتائج تبني هذه الفلسفة -المنكرة للتفلسف أصلا- أن التصورات الفلسفية للكثير من العلماء التجريبيين لم تعد
تجد أي حرج في خرق المنطق، وهو ما يؤكده الاقتباس السابق عن ليونتن نفسه، كما يقول هوكنغ “إن الكثير من المفاهيم العلمية الحديثة تخالف المنطق السليم المبني على التجربة اليومية، أما طبيعة الكون فتكشف عن نفسها من خلال عجائب التكنولوجيا” [التصميم العظيم، ص 15]، كما يكرر الفيزيائي ميشيو كاكو في صفحات عدة من كتابه “فيزياء المستحيل” أن نظرية الكم تغير قوانين العقل الأساسية، وإلى درجة إسقاط مفهوم المستحيل من الوجود.
ويأتي الإشكال أولا من خرق نظرية النسبية لما هو مألوف ومعتاد، فقد كان يُعتقد أن الزمن ثابت كوني لا يتأثر بأي عامل من العوامل، لكن المعادلات الرياضية أثبتت أن سرعة الضوء هي الثابتة وأن الزمن نسبي، فعندما يتحرك جسم ما بسرعة كبيرة جدا فإن الزمن الخاص به يتمدد (يتباطأ)، فمثلا تقيس الساعة الموضوعة على صاروخ خارق السرعة مدة زمنية أقصر مما تقيسه ساعة أخرى على الأرض مثلا، وهذا أمر لم يكن ليخطر على بال أحد، وقد أثبتته التجارب العملية بالفعل.
ونتيجة لذلك بدأ كتّاب الخيال العلمي بالتجرؤ على خرق المنطق وطرح رؤى خيالية، فظهرت روايات السفر عبر الزمن كنوع من الخيال ثم لحق بهم الفيزيائيون النظريون (فئة من العلماء تدرس الآثار الفلسفية للعلم) على اعتبار أن الرياضيات لا تنكر تلك التخيلات، وظهرت معضلات فلسفية في العديد من الكتب العلمية “الرصينة” لتتساءل ما الذي سيحدث إذا عاد شخص بالزمن إلى الوراء وقتل والده مثلا، فهذا يعني أنه لن يُخلق أصلا، ثم ظهرت نظريات عدة لمناقشة هذه المشكلة دون أن ينتبه كثير من العلماء إلى التناقض العقلي في هذه العودة إلى الماضي.
السبيل-موقع حزب الحداثة.