حداثة و ديمقراطية

المعرفة و مصادرها(٩).

هل يكفي العقل وحده؟

اختلفت آراء العقليين بحسب الثقافة السائدة على مر العصور، فعندما سادت ثقافة الباطنية في الهند وفارس وبعض المناطق اليونانية كان الكهنة يزعمون عدم الحاجة للوحي، على اعتبار أن العقل الذي يتلقى الفيض من الإله (الحقيقة الكونية بحسب مفهومهم) في غنى عن تلقي المعرفة نفسها بالوحي المباشر على يد الأنبياء، وتأثر بهذا المفهوم الفلاسفة العقليون الذين نشأوا في البيئة نفسها، كما لحق بهم بعض فلاسفة الإسلام مثل الطبيب الرازي المتوفى عام 313هـ.ومن الأمثلة المشهورة لهذا المنهج في البيئة الإسلامية، رواية “حي بن يقظان” للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، التي تحكي قصة طفل ينشأ وحيدا في جزيرة نائية، حيث يبدأ بالتأمل في ذاته وفي الكون والحقائق الوجودية دون تربية ولا توجيه، فيصل إلى المعرفة بعقله دون حاجة للوحي.وعندما بدأت ترجمة الفلسفة اليونانية العقلية وشبيهتها الإسلامية إلى اللغات الأوروبية ظهرت أفكار مماثلة لدى الأوروبيين، فاعتبر سبينوزا أن العقل أوثق من الوحي لأن دلائل صدقه متضمنة فيه بينما يحتاج الوحي إلى المعجزة لإثبات صدقه، كما سار لايبنتز على نفس النهج، وحاول الاثنان في القرن السابع عشر إقامة دين جديد تحت مسمى دين الطبيعة، بحيث يُحتكم فيه إلى العقل دون الوحي، ثم دعم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط هذا التوجه في القرن التاسع عشر.

و يبدو أن الفلاسفة العقليين في عصر النهضة الأوروبية كانوا يسعون إلى رد الاعتبار للعقل ضمن صراعهم مع كهنوت الكاثوليكية من جانب، وضمن صراعهم أيضا مع فلاسفة المذهب الحسي، ولكن ديكارت نفسه (وهو رائد هذا المذهب) اعترف بأن هناك حقائق ميتافزيقية (غيبية) لا يمكن للعقل الخوض فيها، ثم جاء أتباعه من بعده ليحصروا المعرفة في العقل وحده.لم يكن هناك فصل آنذاك بين الفلسفة وعلوم الاجتماع والنفس والطب، ما سمح للعقليين بمنح العقل تلك المنزلة العالية، لكن الكثير من الدراسات الاجتماعية التي ظهرت في القرن العشرين أكدت أن الفطرة لا يمكن أن تبقى مصونة عن الزيف بعد وقوعها تحت تأثير الوراثة والبيئة [محمد تقي الأميني، عصر الإلحاد، ص74]، فمن شبه المستحيل التوصل إلى نتائج عقلية مجردة في العلوم الضرورية التي تقوم على الأوليات العقلية (الفطرة)، وهو ما يؤكده الفليسوف الألماني كولبه بقوله “إنه من الصعب أن نضع حدا فاصلا بين الأحكام الأولية للعقل وبين الأحكام المكتسبة من التجربة”.وصعوبة تجرد العقل البشري تنبع من طبيعة الإنسان، حيث يستحيل عليه التحول إلى آلة صماء كأجهزة الحاسوب المبرمجة على التسلسل المنطقي، فالتداخل بين العقل والنفس هو جوهر الإنسان منذ بدء خلقه.كما أن وضع منهج معرفي متكامل للعقل من خلال العقل نفسه أمر متعذر، فلا يمكن للآلة أن تدرك ذاتها والمؤثرات المحيطة بها على وجه التمام، وأن تحدد بدقة حدود قدراتها ومنتهاها، ثم تضع منهجا يضبط عملها ويصحح مسارها فيه دون حاجة لمرشد خارجي. لذا اضطر ديكارت منذ بداية وضعه لمنهج المعرفة العقلي أن يسلّم بوجود إله خالق ومرشد كخطوة ضرورية وتلقائية بعد تسليمه بالحقيقة الأولى، وهي أن يعقل ذاته، وكأن العقل لا يستطيع أن يخطو خطوته الثانية دون مصدر علوي يستند عليه.

السبيل_موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate