المعرفة و مصادرها(٥).
أما الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (توفي عام 1941م) فقد وضع
مذهبا فلسفيا جديدا في القرن العشرين على مفهوم الحدس، معتبرا أن الحدس عند الإنسان يشبه الغريزة عند الحيوان، وهو أمر لا يمكن التعبير عنه بالكلمات بل يجب تذوقه ومعايشته واختباره من قبل كل شخص على حدة حتى يكتسب به المعرفة. وبما أنه فيلسوف غربي من أصل يهودي فلم يكن ميالا إلى الإيمان بالإله المجرَّد بالرغم من أفكاره التي تبدو صوفية للوهلة الأولى، بل جعل الحدس معرفة منبثقة من داخل الإنسان وليست مصدرا للمعرفة التي تهبط عليه من الإله.
كان هنري برغسون يرى أن الحياة انطلقت من خزان كبير وانتشرت بين الكواكب، ثم اتخذت أشكالا متنوعة على شكل مادي، ومن الواضح أن هذه الفكرة الميتافيزيقية (الغيبية) لتفسير نشوء الكون والحياة لا يؤيدها أي دليل.
يضع برغسون المادة والحياة في موقعين متقابلين، فالحياة انطلاق وحرية، والمادة سكون وخضوع للقوانين الفيزيائية، وكلما اكتسب الشيء قدرا أكبر من الحياة كان أسمى، وهو ما يفسر سمو الإنسان على بقية الموجودات، وهو يختلف عن التطوريين (أتباع نظرية داروين) في أن لكل كائن حي قدره الخاص من الحياة والمادة منذ البداية، وإذا كان الحيوان يمتلك غريزة للتوصل إلى معرفته الخاصة فإن الإنسان يمتلك عقلا بالمقابل، كما يمتلك أيضا وجدانا أو بصيرة يتوصل بها إلى الحدس الذي هو أسمى أنواع المعرفة.
يضع برغسون أيضا الزمان والمكان في موقعين متقابلين، فالزمان متغير وحر، والمكان جامد ومقيد. والزمان هو الواقع الحقيقي وهو الحياة، وبما أن الكائنات الحية تعيش في حالة صيرورة دائمة بالانتقال من حال إلى آخر فإن علاقتها بالزمان هي “الديمومة”.
والتغير المستمر للأحياء هو حالة من التطور الخلاق، وهذه الحياة المبدعة هي الإله نفسه برأيه، فهي التي توجد الأشياء وتتابع تتطورها، وهي نفسها في حالة تطور. أما المعرفة الحقيقية لهذا الواقع الحي المتطور فهي الحدس، لأن العقل لا يستطيع أن يدرك الحياة بخصوصيتها، وعلى كل حي أن يندمج مع الحياة الباطنة ليتوصل إلى هذه المعرفة اليقينية المطلقة.
ويرى بعض المفكرين أن برغسون لم يأت بجديد، وأنه أعاد صياغة الباطنية اليهودية (القبالاه) في صورة جديدة تناسب العصر، وأنه تأثر أيضا بكل من أفلاطون وديكارت ومالبرانش وباسكال [مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا، ج. بنروبي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص 176].
دويبدو أن طغيان الاتجاه المادي في القرن التاسع عشر على الفكر الغربي كان له أكبر الأثر في جنوح برغسون نحو الحدس، ليضع فلسفة معاصرة تعيد الاعتبار للروح، إلا أنه تطرف أيضا في اتجاهه الروحي كتطرف الوضعيين في المادية، فألغى الواقع العملي وقلل من شأن المعرفة العقلية المجردة، كما أن فلسفته لا تعدو قدر الفلسفات الغربية الأخرى في تناولها للقضايا الميتافيزيقية (الغيبية)، فالحدس ليس سوى جزء من الإنسان ومحدود بدائرتي المكان والزمان كمحدودية الإنسان نفسه، ولن يستطيع تجاوزهما حتى في خياله.
من جهة أخرى، يرى الباطنيون أن الحدس هو قبول الإلهام الذي يلقيه العقل الفعال في النفس، ويرى المتصوفة أن الحدس (الكشف) لا يتم إلا بعد رياضة روحية ومجاهدة نفس بطرق مدروسة وممنهجة، وهو ما اقتبسوه كما يبدو من الديانات الباطنية كالهندوسية والبوذية، أما عند الفلاسفة العقليين فالحدس والإلهام مصطلحان لشيء واحد، وهو حسب رأيهم المعرفة المباشرة دون استدلال وتجربة.
ويؤمن الباطنيون والمتصوفة بأن البصيرة لا تعمل عملها باكتساف المعرفة (سواء من الإله أو العقل الفعال أو الحقيقة الكونية) إلا بعد الاعتقاد بأن الجانب المادي من الإنسان هو عائق للروح والبصيرة، كما يعتقدون أن الحواس والعقل لا تتوصل إلا إلى حد معين من المعرفة لا يمكنها تجاوزه، وأن الحقائق لا تُكتسب إلا بالحدس والإلهام بعد القضاء على المادية. وقد يختلف الباطني مع المتصوف في الطريقة لكن الهدف واحد.
السبيل- موقع حزب الحداثة.