اصلاح ديني

أزمة تعريف الدين(٣).

الغالب والمغلوب

لمّا كان الدين -بمعناه الغربي- هو الاستسلام الكامل لكهنوت الكنيسة في كل شؤون الحياة من أول حكم الدولة إلى احتكار العلوم والمعارف كلها. كانت العالمانية هي الملاذ الوحيد لبناء الحضارة وتقدم الأمم في نقطة فاصلة في التاريخ الغربي، بين عصور الظلام التي تمسكت بالكهنوت الكنسي وبين عصر التنوير الذي تحرر العقل من الكنيسة فتقدم. فلا عجب أن ينظر هؤلاء إلى الدين – المسيحية المحرفة – على أنه أساطير الأولين!

ولكن المشكلة الكبرى في هذه الأيام، أن المسلم المعاصر بات ينظر إلى السيناريو الغربي على أنه تحرر من الدين – بإطلاق – لا تحرر من الديانة المسيحية التي تشربت بالوثنيات والتحريف! فأصبح المسلم المعاصر ينظر إلى الإسلام مثلما ينظر الغربي إلى المسيحية، وبما أن النهضة الغربية كانت تحت قيادة العالمانية، توهم بعض المسلمين أن العالمانية هي الملاذ الأخير لنهضة إسلامية حديثة!

وعندي أن الغالبية لو صدقت مع أنفسها أكثر لاعترفت أنها تنظر إلى الدين على أنه أساطير الأولين حقًّا، ويبرهن على ذلك الواقع المعاصر. فالدين عندهم لا علاقة له بالرؤية الكونية الشاملة، ولا بالهداية في الأسئلة الوجودية الكبرى! ونادرًا ما تجد من يثق في أهلية الدين على قيادة البشرية أكثر ممن يثق في أهلية فلسفات البشر على القيادة! بل تجد أن منهم من حصر الدين في لائحة طويلة من المكروهات والمباحات، ومنهم من حصر الدين في مراسم ميتة لا تظهر إلا في الأعياد والمناسبات، ومنهم من حصر الدين في الحديث عن القصص القرآني من باب التسلية، ومنهم من حصر الدين في التقليد الموروث والاتباع الأعمى، مما يحجر قدرات العقل ويعطل بناء الحضارة!

وعندي أن الحوار مع العلمانيين الذين ولدوا على الإسلام لا يبدأ من تصحيح مفاهيمهم الخاطئة، بل إننا بحاجة إلى أن نرجع خطوة إلى الوراء حتى نعرف الدين الذي نجادل حوله أولا. ونحن بحاجة بأن نرسم خطا أحمر بين السيناريو الأوربي عن السيناريو الإسلامي. فالأول كان تحريرًا للعقل من سلطان الخرافة، والثاني هو دين حق يرسم للعقل طريق الحقيقة ويحذره من الوقوع في الخرافة!

فوثوق المسلم في قدرة العالمانية لقيادة الركب الإنساني مع كامل إعراضه عن الدين ينبع من عدم الاقتناع بصحته لا محالة. فكيف يقر الإنسان أن الدين نزل من الله الذي خلق ثم يتهم الدين أنه لا يتماشى مع طبيعة البشر أفرادا ومجتمعات! وكيف يكون الإنسان المنصف معترفا بحاجته إلى الدين لأن العقل وحده يعجز عن إدراك الحقائق الكلية ثم يتمرد المسلم على الدين بدعوى أن العقل وحده يكفي!؟

أما عن انتشار فلسفات الغرب ورؤاه كالعالمانية، والليبرالية، والماركسية –فيما مضى- وتوغلها بين المسلمين بإرادتهم فما ذلك إلا لمشكلة نفسية لا فكرية. فمن يفتقر إلى ثقته بذاته واعتزازه بهويته سيتبع كل غالب مهما كان بين يديه بضاعة مزجاة، وسيعرض عن كل مغلوب مهما كان بين يديه الدواء الشافي! أو كما قال ابن خلدون: “المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب. والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها!”

السبيل- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate