حداثة و ديمقراطية

التَّنوُّع البشريُّ المذهِل(٥).

الاختلاط الجينيُّ: بشريَّة جمعيَّة

البشريَّة جمعيَّة بسبب الانفجار السُّكَّانيِّ الَّذي أعقب انطلاق الإنسان العاقل، إذ دفعه فضولُه إلى الهجرة، والسَّفر، واكتشاف آفاق جديدة، والتَّكيُّف مع العديد من الظُّروف المعيشيَّة المختلفة، والمقاومة، والنَّجاح. وتبادل الأفراد اختلافاتهم وخصائصهم، حتَّى في أدقِّ التَّفاصيل. وعزَّزت الكثافة السُّكَّانيَّة اختلاط الجينات، وانتقاء العديد من المتغيِّرات. فمنذ عام 2010؛ نجح الباحثون في الاستفادة من الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين ودراسة تسلسله في حفريَّات أسلاف البشر، منها عدَّة حفريَّات لإنسان نياندرتال وحفريَّة لإنسان دينيسوفان dénisovien تعود إلى حوالي 50 ألف سنة مضت. فأحد أنواع الأسلاف البشريَّة المشتركة، الَّذي عاش قبل مليون سنة، تفرَّع إلى 3 أنواع جديدة كانت قادرة على التَّعايش وعلى تهجين جَينومِها: إنسان نياندرتال، وابن عمِّه الآسيويُّ دينيسوفان dénisovien، والإنسان العاقل؛ أي: نوعنا الحاليُّ. فقد أظهرت مقارنة الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين لهذه الأنواع الثَّلاثة وجودَ تزاوج بين هذه الأنواع؛ أي: اختلاط الرَّسائل الوراثيَّة وتبادلها. فلم يستمرَّ لدى الإنسان المعاصر سوى حوالي 1 إلى 2 % من الحمض النَّوويِّ الموروث من إنسان نياندرتال، والموجود لدى أغلب الجماعات العِرقيَّة الحاليَّة في آسيا وأوربا. وبالمقابل؛ يكاد الحمض النَّوويُّ للدِّينيسوفان يكون غائباً لدى السُّكَّان الأوربيِّين والأفريقيِّين، ولكنَّنا نجده لدى السُّكَّان الميلانيزيِّين في الجزر الأوقيانوسيَّة، ولا سيَّما لدى سكَّان بابوا papous، حيث يُمثِّل ما يصل إلى 6% من الجينوم. وتُفسِّر النِّسبة المنخفضة من الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين المهجَّن من إنسان نياندرتال في جينومنا بانتقاءٍ جينيٍّ قويٍّ لدى الإنسان العاقل لعدد كبير من المتغيِّرات الجينيَّة الَّتي انتقلت عن طريق إنسان نياندرتال، والَّتي استُبعِدَت بالانتقاء السَّلبيِّ بسبب تأثيرها المحايد أو غير المواتي لتكيُّف الإنسان العاقل مع بيئته.

نزهة نيكولاي بيريستوف المُثمِرة

إنَّها قصَّة مدهشة يبحث فيها الصَّيَّاد نيكولاي بيريستوف nikolaï peristov عن أنياب الماموث العاجيَّة على ضفاف نهر إرتيش irtysh في غرب سيبيريا، في صيف عام 2008. وقد عثر الصَّيَّاد على عظم فخذ مُتحجِّر، اتَّضح أنَّه لإنسان عاقل عاش قبل 45 ألف سنة. وتمَّ، بفضل بصيرة عالِم البيولوجيا السُّويديِّ سفنتي بيبو svante p?abo، اكتشاف سلسلة الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين لهذا الأحفوريِّ بالكامل في عام 2014، وبعض الأسرار حول التَّزاوج بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل، والجينات الموروثة من نياندرتال الَّتي انتقلت إلى الإنسان العاقل. ومن الحفريَّات الَّتي درسها الإنسان واحدة من تلك الَّتي تمَّ الحفاظ على حمضها النَّوويِّ بأفضل شكل، وفقاً لمجتمع علماء الأنثروبولوجيا.

لقد حلَّلَ مايكل دانمان michael dannemann، عالمُ الوراثة من معهد الأنثروبولوجيا في لايبزيغ، البصمة الوراثيَّة الموروثة من إنسان نياندرتال لدى أكثر من 110 آلاف شخص من خلال ربطها بالتَّحليل التَّفصيليِّ لأكثر من مائة سِمَة شكليَّة. ولاحظ، فيما يتعلَّق ب 11 سمة، وجودَ ارتباط كبير مع المتغيِّرات الجينيَّة القديمة المنقولة من إنسان نياندرتال إلى الإنسان العاقل، والمحفوظة في حمضنا النَّوويِّ. ويؤثِّر بعضها في القامة، والخَصْر، وشكل الجمجمة، وسماكة العِظام. والأمر المثير للفضول أنَّ غالبيَّة المتغيِّرات تؤثِّر في لون البشرة وسرعة التَّأثُّر بالشَّمس. فقد امتلكَ إنسان نياندرتال بالفعل متغيِّراً للشَّعر الأصهب والعديد من المتغيِّرات المرتبطة بالبشرة البيضاء أو الدَّاكنة قليلاً. تدلُّ هذه المتغيِّرات المُنتقاة على هجرات «خارج أفريقيا» كانت منتشرة بالفعل بين السُّكَّان البدائيِّين. ومع ذلك؛ أُضِيفَ إلى آثار هذه المتغيِّرات الموروثة من إنسان نياندرتال في لون البشرة؛ تأثيرُ المتغيِّرات الأُخرى الَّتي انتقاها الإنسان العاقل منذ حوالي 10 آلاف سنة. ومن هذه المتغيِّرات؛ لوحِظ لدى الإنسان العاقل أنَّ الجينين asb1 وexoc6 يشاركان في النَّمط الزَّمنيِّ؛ أي: في القدرة على تحديد أولويَّات النَّشاط البدنيِّ صباحاً أو مساءً إلى حدٍّ ما. وهكذا؛ نقل إنسان نياندرتال متغيِّراً للجين asb1 مرتبطاً بوضوح بتفضيل الأنشطة المسائيَّة. وتدلُّ هذه الاختلافات، مرَّةً أُخرى، على إرث السُّكَّان الَّذين هاجروا من خطوط العرض المختلفة، والذين تكيَّفوا بشكل مختلِف مع تناوب اللَّيل والنَّهار والتَّعرُّض للشَّمس. وأخيراً؛ لُوحِظَ متغيِّر للجين cdh6 المرتبط بشكل مُهمٍّ بنقص الحماس والمزاج الكئيب في الحمض النَّوويِّ القديم الَّذي نُقِلَ إلى الإنسان العاقل.

الاختلاط الجينيٌّ: مُوَاتٍ أم غيرُ مُوَاتٍ؟

سهَّلَت وراثة المتغيِّرات الجينيَّة من إنسان نياندرتال أو من أسلاف البشر القدماء الآخَرين تكيُّف الإنسان العاقل وقتَ حدوث هذا الانتقاء؛ أي: قبل 40 ألف سنة تقريباً. فمعظم المتغيِّرات الَّتي تمَّ انتقاؤها إيجابيَّاً تتعلَّق في الواقع بتأثير البيئة: أشعَّة الشَّمس ودرجات لون البشرة، ومناعة الأغشية المخاطيَّة، والاتِّصال بالبكتيريا والطُّفيليَّات، وربَّما أيضاً ندرة الغذاء، والتَّكيُّف مع تخزين الدُّهون. وإذا كانت بعض هذه المتغيِّرات في العصر الحجريِّ إيجابيَّة بالنِّسبة للإنسان العاقل؛ فإنَّ انتشارها وتفاعلها مع بيئة مختلفة يُساهمان اليوم في ظهور الأمراض الأرجيَّة الجديدة، والالتهابات، وزيادة الوزن كما سنرى لاحقاً.

خاتمة

ينطوي تُراثنا الجينيُّ على كثير من المتغيِّرات الَّتي تؤثِّر في نمطنا الظَّاهريِّ. فالمتغيِّرات الأكثر فعالية لبقاء النَّوع وتكيُّفه تمَّ انتقاؤها بشكلٍ إيجابيٍّ، ولم تختفِ. وتمَّ انتقاء متغيِّرات أُخرى منذ عهد أكثر قُرباً، وتمَّ تبادلها بشكلٍ عشوائيٍّ قليلاً؛ وفقاً للهجرات البشريَّة، والحفاظ عليها أيضاً عندما كان لها تأثير مُحايد أو غير ذي أهمِّيَّة، أو غير معروف أحياناً. ونكتشف الآن المتغيِّرات المسؤولة عن العديد من الخصائص الَّتي تجعل كلَّ واحد منَّا فريداً، والَّتي تنطوي على تفاصيل مُضحِكة أحياناً. ومع ذلك؛ ليس علم الوراثة الفاعل الوحيد في التَّنوُّع، الَّذي يرتبط أيضاً بالبيئة وتأثيرها في وظيفة الجينات.

لبرنار سابلونيير ترجمة: محمد أحمد طجًو.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate