حداثة و ديمقراطية

فاعلية الأفكار في الحضارات(٢).

تأثير الفكرة في  الحضارة:

أي حضارة ما ناتجة عن فكرة جوهرية تطبع المجتمع في مرحلة ما قبل التحضر وتدفعه لدخول ميدان التاريخ بحضارة واثقة، فقد أخرجت الفكرة المسيحية أوروبا إلى مسرح التاريخ، وبنت عالمها الفكري انطلاقا منها، وقد تغيرت فكرتها مع استعادة عصر النهضة أدبيات الإغريق وفلسفات أفلاطون وأرسطو لتصبح حضارة المادة لا الروح، بينما كان الباعث الفكري للحضارة الإسلامية هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وما زالت جماهير المسلمين تحن إلى روح هذه الحضارة، وبذلك يتجلى نموذجان فكريان يسيطران على مسير الحضارة:

1- السيطرة التقنية وتتمثل في الفكر الغربي الذي يجنح إلى الدوران حول الوزن والكم ويصل إلى المادية عند الانحراف والمغالاة.

2- الحضارة الأخلاقية المؤمنة بالغيب، وتتمثل بالحضارة الإسلامية في ذروة حضورها،حيث يدور الفكر الإسلامي في مداره الأول حول مبدأي حب الخير أو كره الشر، إلا أنه في عصور أفول فاعلية حضارته فإن المغالاة تدفع المسلمين إلى التقليد الأعمى والانبهار الكبير بأشياء الغرب.

ودور الأفكار لا يمثل الزينة أو الزخرفة التي تزين الواجهة الحضارية بل يمثل الباعث للحضارة وقائدها نحو التقدم، فتكون الأفكار هنا الباعث الوظيفي للقيام بمهمة الحضارة فاعلية الأفكار في الحضارات، والفكرة الباعثة للحضارة تمر مع الحضارة بمراحل ثلاثة: مرحلة الروح التي تعد تمثيلاً أولياً “لإشعاع الفكرة الدينية التي تتمكن من النفوس فتبنيها بناء مرصوصا” ويندفع معتنقوها للدعوة إليها ونشرها، ثم مرحلة العقل حيث تنزل الروح  إلى عالم العقل فتساعده على الفهم وتحفزه على الأخذ بالعلم لخدمة الفكرة، فيدير الشؤون المدنية والاجتماعية ويوافق ما بين الحاجات المادية ومتطلبات الروح للمجتمع ضمن إطار الأفكار التي أنشأت الحضارة، ثم مرحلة الغريزة، حيث تبدأ العلاقات الاجتماعية المتشكلة عن الحالة الأولى بالتحلل فربما تنسل إلى همهمات التصوف أو تنحدر إلى عالم العجائب الذي هبت منه روح ألف ليلة وليلة، أو التقليد الأعمى لمنتجات الغرب بدعوى التحضر، وبالتالي تتكدس الأشياء والأدوات الاستهلاكية والمنافع الخاصة على حساب الأفكار، وبالتالي فإن العقل يجيِّر المادة لخدمة الغريزة، بينما كانت الروح والعقل يجيرانها لخدمة الأفكار .

وبكل تأكيد فإن طغيان عالم الأشياء سيوقف فاعلية الحضارة وستنتقل قيم المجتمع من مرحلة التميز الفكري إلى الاستهلاك وتكديس المنتجات المادية وتقليد الآخر، وحين يطغى الأشخاص فإن المثل الأعلى سيتجسد في شخص ما على هيئة (وثن) حيٍّ حيث يشير علماء الاجتماع إلى أن التعامل مع (الوثن) أسهل من التعامل مع الفكرة، إذ يسهل استغلال النفوذ مع الأشخاص مقابل استحالته مع الفكرة.

لعرابي عبد الحي عرابي.

السبيل- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate