حداثة و ديمقراطية

التَّنوُّع البشريُّ المذهِل(٣).

الإنسان العاقل: جينات الغزو

ما الَّذي حدث للإنسان العاقل منذ ظهوره؟ هناك حدثان: تكيَّفَ الإنسان العاقل مع بيئته الأصليَّة، أفريقيا وزادَ عددُه، في حين أنَّ عدد إنسان نياندرتال الَّذي وصل إلى ذروتَه فبلغ 70 ألف شخص؛ قد انخفض تدريجيَّاً، ليموتَ منذ حوالي 30 ألف سنة. فالهجرات الَّتي يعود تاريخها إلى أكثر من 200 ألف سنة؛ أي: هجرات الإنسان العاقل الأولى خارج أفريقيا، قادَته إلى مناطق مختلفة من العالم، لا سيما أوربا. وزاد عددُ الإنسان العاقل بعد هذه الفترة، وقادته هجرات أُخرى إلى المناطق الباردة من الكرة الأرضيَّة، مثل سيبيريا ومنطقة القطب الشَّماليِّ.

الإنسان العاقل ضدَّ إنسان نياندرتال: معركة جينيَّة؟

تزاوج الإنسان العاقل مع إنسان نياندرتال على الأرجح لمدَّة 10 آلاف سنة تقريباً. لكنَّ إنسان نياندرتال اختفى في نهاية المطاف، لماذا؟ هذا السُّؤال يؤرق دائماً علماء الأنثروبولوجيا. ووفقاً لسيلفانا كونديمي silvana coindemi، عالمة الأنثروبولوجيا في جامعة إيكس-مرسيليا aix-marseille؛ يتعلَّق الأمر قبل كلِّ شيء بمعركة وراثيَّة، فقد كان الإنسان العاقل عموماً أكثرَ خصوبةً، ولكنَّ تكاثُرَ الأزواج المكوَّنين من رجلٍ نياندرتاليٍّ وامرأةٍ عاقلة؛ كثيراً ما انتهى إلى الإجهاض، بينما كانت ذرِّيَّة المرأة النياندرتاليَّة والرَّجل العاقل أكثرَ إخصاباً. ويُشير باحثون آخَرون إلى عدائيَّة أكثر وضوحاً لدى الإنسان العاقل. تدريجيَّاً؛ زاد عدد الإنسان العاقل، ووجدَ إنسانُ نياندرتال نفسَه خاضعاً، لكنَّ حدوث اختلاط في الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين أتاح للإنسان العاقل حفظَ المتغيِّرات الجينيَّة الآتية من جينوم إنسان نياندرتال ونقلها.

تُمثِّل الزِّيادة السُّكَّانيَّة المتنامية للإنسان العاقل بالنِّسبة لعلماء الوراثة؛ أحدَ الأسباب الرَّئيسة لظهور عدد كبير من المتغيِّرات الجينيَّة وانتقائها واختلاطها. وقد ازداد النُّموُّ السُّكَّانيُّ خاصَّةً في بداية العهدِ الهولوسينيِّ؛ أي: قبلَ 10 آلاف عام. فبداية التَّدجين والاستخدام التَّدريجيُّ لاستهلاك الحبوب خَلَقَا نويَّات للتَّوسُّع السُّكَّانيِّ في العديد من مناطق العالم، لا سيَّما في مصر، والشَّرق الأدنى والصِّين. وقد تتابعت خلال 6 آلاف سنة انطلاقاً من هذه النُّويَّات عدَّة هجرات إلى غرب أفريقيا والشَّمال وأوروبا وجنوب شرق آسيا وأستراليا. ويمكن بالتَّالي تقدير عدد السُّكَّان قبل 4 آلاف سنة بحوالي 4 ملايين نسمة في أفريقيا، و20 مليوناً في أوراسيا.

مُخطَّط تفرُّع الجنس البشريِّ

يُبرِز هذا الغزو لمختلف مناطق العالم آليَّات الانتقاء الطَّبيعيِّ المرتبطة أوَّلاً بالظُّروف البيئيَّة المناخيَّة. فزيادة الكثافة السُّكَّانيَّة وتنوُّع المناطق الجديدة -حيث ينبغي على الإنسان العاقل التَّكيُّف- أدَّيَا إلى تسريع الانتقاء الإيجابيِّ للعديد من المُتغيِّرات الجينيَّة. وقد درسَ روبرت مويزيس robert moyzis، عالمُ الجينوم في جامعة كاليفورنيا في ايرفين irvine، تواترَ الاختلافات الجينيَّة الَّتي حدثت في الإنسان العاقل بالتَّتابع منذ هجراته من العصر الحجريِّ القديم الأوسط حتَّى العصر الحجريِّ الحديث؛ أي: ما بين 100 ألف و8 آلاف سنة قبل عصرنا. فقد كان عدد السُّكَّان من الإنسان العاقل منذ 100 ألف سنة ضئيلاً؛ لذلك، يعتبر انتقال المتغيِّرات الجينيَّة المنتقاة ظاهرةً نادرة. وقد ظهر في تلك الفترة على الأرجح ما بين مُتغيِّر واحد وخمسة مُتغيِّرات جديدة كلَّ عشرة أجيال. وبدءاً من العصر الحجريِّ القديم الأعلى؛ أي: منذ حوالي 40 ألف سنة، وحتَّى العصر الحجريِّ الحديث، كان عدد السُّكَّان من الإنسان العاقل يزداد ويتوزَّع، من خلال غزو مناطق جديدة في آسيا وأوروبا أو أمريكا. وخلال هذه الفترة؛ كان تكرار ظهور المتغيِّرات الجديدة الَّتي انتقاها تكيُّف الإنسان مع بيئته يزداد بشكلٍ ملحوظ. ومن المحتمل أنَّ حوالي خمسين اختلافاً أساسيَّاً قد انتشرت في جماعات عِرقيَّة مختلفة ما بين 8 آلاف و3 آلاف سنة قبلَ عصرنا، وهي اختلافات سنقوم بعرضِها بالتَّفصيل في هذا الكتاب. وأمَّا في العصر الحجريِّ الحديث؛ فقد زاد تحضُّر الجماعات البشريَّة الَّتي طوَّرت الزِّراعة، ورَبَّت الحيوانات، ونظَّمَت نفسَها في مجموعات اجتماعيَّة أكثرَ استقراراً. وفي نهاية العصر الحجريِّ الحديث؛ أي: منذ حوالي 3 آلاف سنة، انخفض العدد التَّقديريُّ لظهور متغيِّرات جديدة إلى حوالي واحد كلَّ عشرة أجيال. وهذا لا يعني عدمَ وجود تكيُّف خلال ثَّلاثة آلاف سنةٍ مضَت. ووفقاً لجوناثان بريتشارد jonathan pritchard، من جامعة ستانفورد، يوضح التَّحليل الجينيُّ لمتغيِّرات أسلاف البريطانيِّين استمرارَ الانتقاء الجينيِّ المتعلِّق بالجينات المشارِكة في التَّصبُّغ، والمناعة والتَّكيُّف مع تغيير عادات الأكلِ لدى الإنسان العاقل. فَمِن إجماليِّ حوالي 400 مُتغيِّر تمَّ انتقاؤها تحت تأثير البيئة لأكثر من 100 ألف سنة؛ اتَّضح أنَّ عشرين متغيِّراً تقريباً كانت ضروريَّة للتَّكيُّف مع الظُّروف المعيشيَّة، وأنَّ متغيِّرات أُخرى أُضِيفَت خلال الاختلاط الجينيِّ. ويُمكننا هنا تقديم بعض الأمثلة لهذه المتغيِّرات الَّتي انتقاها الإنسان العاقل.

يُفسِّر تغيُّر الوضع البيئيِّ ثمَّ التَّحوُّلات الثَّقافيَّة (التَّدجين، والزِّراعة، والمسكَن الجماعيُّ) بشكل إجماليٍّ ظهورَ انتقاءٍ جديد للمتغيِّرات. وتُفسِّر الهجرات الأوراسيَّة الضَّغطَ الانتقائيَّ على الجينات الموجودة في لون البشرة، والقامة، والتَّكيُّف مع البرد ونمط التَّغذية أيضاً. ومن وجهة نظر ثقافيَّة؛ كان أقوى ضغطٍ انتقائيٍّ مُحدَّداً بالانتقال إلى الزِّراعة. وأخيراً؛ تمَّ، وفقاً لمناطق العالم، انتقاءُ جينات مقاوِمة للأمراض المُعدِية والوبائيَّة. فبعض الجينات مثل dock3 وeph1b وhesx1 مسؤولة عن القامة القصيرة للأقزام والصَّيَّادين-القطَّافين للثِّمار الَّذين يعيشون في الغابات شبه الاستوائيَّة والاستوائيَّة في أفريقيا وأمريكا. فهذه الجينات الثَّلاث تؤثِّر في ازدياد نموِّ الإنسان ومُدَّته. وتُعزِّز انخفاض سطح الجسم والتَّكيُّف بشكل أفضل مع الحرارة الرَّطبة. وتمَّ انتقاء جينٍ آخَر؛ أي: الجين fads، المسؤول عن قِصر القامة لدى شعب الإسكيمو inuits. فهذا الجين يُتيح للكَبِد التَّكيُّف مع نظام غذاء الإسكيمو الغنيِّ بالدُّهون غير المشبَعة لتحويلها إلى دهون مُشبَعة. ويؤثِّر هذا التَّعديل في النُّموِّ في الحدِّ من الطُّول ومن وزن الجسم. وردَّاً على القيود البيئيَّة دائماً؛ طوَّرَ سُكَّان إثيوبيا والتِّبِت وجبال الأنديز تكيُّفاً مع الارتفاع ونقص الأكسجين في الهواء. وقد تمَّ انتقاء مُتغيِّر للجين epas1 لدى سكَّان التِّبِت tibet الَّذين يعيشون على ارتفاع 2500 متر فوق مستوى سطح البحر. ويُنظِّم مُتغيِّر هذا الجين السَّائد لدى سُكَّان التِّبِت إنتاجَ خلايا الدَّمِ الحمراء، ويُنشِّط عمليَّة الاستقلاب الغذائيِّ لأعضاء الجسم؛ فيمنحها، من أجل الجهد البدنيِّ، تحمُّلاً يعادل تحمُّل السُّكَّان الَّذين يعيشون في مستوى سطح البحر. فوفقاً لهاي لو haiyi lou، عالم الوراثة في أكاديميَّة شنغهاي للعلوم؛ ظهرَ هذا المُتغيِّر حديثاً جدَّاً؛ أي: منذ حوالي 3 آلاف سنة، بعد انتقال المهاجرين الهان hans إلى التِّبت. ويُعَدُّ هذا المُتغيِّر المثالَ الأكثر حداثةً لانتقاءٍ جينيٍّ مُرتبط بالبيئة.

لبرنار سابلونيير  ترجمة محمد أحمد طجو.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود – موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate