حداثة و ديمقراطية

فاعلية الإنسان في البناء الحضاري عند مالك بن نبي(٢).

وعند تحليله لعناصر الحضارة، يرى مالك أن “كل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الآتية: ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت.

هذه الصيغة صادقة بالنسبة لأي ناتج حضاري، وإذا ما درسنا هذه المنتجات حسب طريقة الجمع المستخدمة في الحساب، فستنتهي حتما إلى ثلاثة أعمدة ذات علاقة وظيفية: حضارة = إنسان + تراب + وقت.

وتكمن أهمية الإنسان كعنصر مركزي في المعادلة السالفة في كون العناصر الحضارية الأخرى صامتة لا تنطق إلا بلسان الإنسان، وهو من يعطيها دلالة وقيمة، وكل بناء سليم للإنسان تربويا وثقافيا يعني بالضرورة إكساب الزمن والتراب الشرطية والقيمة الحضارية، ويجب أن نلاحظ أن الحضارة الإسلامية انتهت منذ الحين الذي فقدت في أساسها قيمة الإنسان، وليس من التطرف في شيء القول بصفة عامة أن الحضارة تنتهي عندما تفقد في شعورها معنى الإنسان.

من أجل ذلك يقدم مالك الإنسان، باعتباره أساس الحضارة وأحد أبرز معالمها، فهو الذي ولدها بفكره وصنعها بيده، لذلك فالاهتمام بمشكلة الإنسان ومحاولة إيجاد الحلول لها يستدعي توجيه العناصر الثلاثة: الثقافة، والعمل، ورأس المال، ولما كانت الثقافة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحضارة في رأي الأستاذ مالك بن نبي، فإن الاهتمام بها في فكره كان حاضرا بقوة.

إن الإنسان باعتباره العنصر الفاعل الذي تبدأ منه عملية التغيير لا يتوقف دوره في المجتمع على حفظ النوع، بل هو خليفة الله في أرضه، وهذه الوظيفة الاستخلافية توجب إجراء عملية تغيير نفسي واجتماعي يخضع لها الإنسان من خلال الثقافة المستمدة من العقيدة الدينية ليكون الأقدر على القيام بدوره الفاعل في بناء مجتمعه.

فالثقافة كما يقول ابن نبي بما تتضمنه من فكرة دينية نظمت الملحة الإنسانية في جميع أدوارها ولا يسوغ أن تعد علما يتعلمه الإنسان، بل هي محيط يحيط به، وإطار يتحرك داخله، يغذي الحضارة في أحشائه؛ فهي الوسط الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع المتحضر، وتتشكل فيه كل جزئية من جزئياته، تبعا للغاية العليا التي رسمها المجتمع لنفسه، بما في ذلك الحداد والفنان والراعي والعالم والإمام وهكذا يتركب التاريخ.

ولذلك يرى مالك أن الحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة ومنهاجا، أو هي -على الأقل- تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام، فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية أو بعيدا عن حقبته، إذ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي تهيمن عليها عبقريته وتتفاعل معها.

فرسالة الإنسان في الحياة الاجتماعية أن يكون عاملا نفسيا زمنيا، فهو لا يؤثر طبقا لوجوده الزمني فحسب، أعني تبعاً لحاجاته المادية، بل يؤثر طبقا لوجوده النفسي، أعني طبقا لحاجاته الروحية، وتلك هي حقيقة الإنسان كاملة، وهي ما ينبغي أن ندركه لنتناوله كلاً غير متجزئ. فما كان لنا أن نحدد شروط تغييره لو غاب عن أعيننا أحد هذين الجانبين، الروحي أو الزمني، فهو من الجانب الأول: إنسان متدين، فالعنصر الديني يتدخل هنا مباشرة في الطريقة التي يتبعها لاستبطان ذاته، باعتباره أساساً لضمير يبحث عن نفسه. هذا الضمير الديني قد ارتبط بالوعي الاجتماعي، ربطهما الإنسان ذاته، ربطاً لا يمكن معه أن ينفصل أحدهما عن الآخر. وإذن: فالإصلاح الديني ضَرُورِيّ باعتباره نقطة في كل تغيير اجتماعي.

لا تنفصل كينونة الإنسان الفرد عن الفكرة الدينية، كما لا يتحقق التماسك والتضامن الاجتماعي بغير منظومة أخلاقية مرجعية، ولهذا تجاوز اهتمام ابن نبي بالأخلاق كمشكلة فلسفية، بل سعى لمقاربتها من الناحية الاجتماعية؛ أي باعتبارها “قوة التماسك اللازمة للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية مرتبطة في أصلها بغريزة “الحياة في جماعة” عند الفرد، هذه الغريزة التي لابد أن يهذبها ويوظفها بروح خلقية سامية ممنوحة من السماء إلى الأرض، مهمتها ربط الأفراد بعضهم ببعض استنادا إلى قوله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)”

ولذلك يقر الأستاذ مالك بأن المجتمع الإنساني لا يتقوم إلا بما يحمله من منظومة أخلاقية، فـ “جميع القوانين التي أملتها السماء، أو وضعتها محاولات البشر، في حقيقة الأمر إجراءات دفاعية لحماية شبكة العلاقات الاجتماعية، وبدونها لا تستطيع الحياة الإنسانية أن تستمر، لا أخلاقيا، ولا مادياً. وكلما حدث إخلال بالقانون الخلقي في مجتمع معين، حدث تمزق في شبكة العلاقات التي تتيح له أن يصنع تاريخه.

وإلى جانب المبدأ الأخلاقي الذي اعتبره مالك أساس المجتمع الإنساني، يشير مالك إلى مبدأ آخر لا تقوم إنسانية المجتمع بغيابه، وهو المبدأ الجمالي، ولكي يوضح الأستاذ أهمية هذا المبدأ فإنه يبين أثره من الناحية النفسية والاجتماعية في حياة الأفراد، فعندما يشاهد المرء صورة جميلة فإنها سوف تثير فيه أشياء جميلة، والعكس صحيح، والقانون نفسه ينطبق على المجتمع فكلما كان هناك اهتمام بالطابع الجمالي في أشيائه بما يتفق والذوق العام، فإن هذا يؤثر في نفسية الفرد، فبالذوق الجميل الذي يتطبع به فكر الفرد يجد الإنسان في نفسه نزوعا إلى الإحسان في العمل، متوخيا الكريم من العادات، وبذلك يكون للجمال أهمية اجتماعية كبرى إذا ما عد المنبع الذي تنبع منه الأفكار، وتصدر عنه بواسطة تلك الأفكار أعمال المجتمع.

لعبد الله إداكوس.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate