حداثة و ديمقراطية

فاعلية الإنسان في البناء الحضاري عند مالك بن نبي(١).

ولد المفكر الجزائري مالك بن نبي سنة 1905م؛ أي بعد ما يزيد على سبعين سنة من استعمار بلاده، ويعد من أبرز مفكري العالم الإسلامي في القرن الماضي لكنه عانى كغيره من ذوي الرؤى الاستشرافية المستقبلية من التجاهل وعدم الاهتمام ويرجع ذلك إلى ذلك النوع من “الجهل المثقف” الذي يسعى ورثة الاستعمار إلى ترسيخه في عقول العامة من الناس، وقد أشار إلى ذلك حين قال في مذكراته: “إنني لا أكتب هذه المذكرات من أجل أولئك المثقفين، ولكن أكتبها للشعب عندما يستطيع قراءة تاريخه الصحيح، أي عندما تنقضي تلك الخرافات التي تعرض أحيانا أفلاما كاذبة، والتي سيكون مصيرها في صندوق المهملات مع مخلفات العهد الاستعماري”.

قضى مالك بن نبي الجزء الأهم من تكوينه العلمي والمعرفي في الغرب وبالخصوص في فرنسا الدولة التي استعمرت بلاده، “ومن واقع حياته في فرنسا ومعايشته الحضارة الأوروبية، وجد أن العصر الصناعي حلقة من مسيرة الحضارات التاريخية تطرح العلاقات الإنسانية في إطار اقتصادي (كمي) لا مكان للقيم الإنسانية في مقياسها المطلق، ولقد انعكس هذا الواقع النفسي والاقتصادي والاجتماعي على مسيرة الإنسانية منذ بداية عصر النهضة، وكانت ظاهرة الاستعمار مظهرا من مظاهر امتداده نحو الآخرين ليس فحسب في الإطار السياسي والعسكري، بل في الإطار الفكري والتربوي أيضا، ولكن الاستعمار رحل وترك مخلفاته الفكرية والتربوية، مما كان له الأثر في مزيد من التخلف في عالمنا الإسلامي”.

هذا التركيب الجينالوجي للتخلف الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية دفع مالك لتجاوز المقاربات التجزيئية في معالجة قضايا الفكر الإسلامي؛ فقد انطلق الرجل في أطروحته لمسيرة النهضة الإسلامية يشق طريقا جديدا وحديثا يتقصى المشكلات في جذورها وليس في مظاهرها ونتائجها..، ويتساءل مالك: ما هذه المشكلات؟ ويجيب بأنها تبدو الجهل هنا والفقر هناك، وفي مجال آخر النقص في الإمكانيات والثروات الطبيعية. وفي حصره لهذه المشكلات وسواها مما ينخر في مجتمعاتنا الإسلامية، وجد أنها تصب كلها في إطار واحد هو أنها مشكلة “حضارة” نحن خارجها ومشكلة “ثقافة” لم يتكامل إطارها في حياتنا اليومية، ونحن لذلك لا نفتقد الوسائل ولكن كيفية استخدام هذه الوسائل والاستفادة من الإمكانيات.

ومادامت المشكلة في هذا المستوى الحضاري، فلابد للفكر التغيري أن يكون في نفس المستوى من العمق، وليس من بديل لانبعاث الثقافة الإسلامية من جديد من الانخراط في هذا التحدي الحضاري والإنساني، وهو الأمر الذي أخذه مالك على عاتقه، فكل مطلع على كتابات هذا المفكر يشهد “أنها في تمثلها للثقافة الإسلامية والعالمية في أبعادها الإنسانية، قد قدمت تصورات وحلولا لم يصل إليها لا مفكرو اليسار الإسلامي الحركي ولا مثقفو التيار القومي أو الليبرالي أو الماركسي آنذاك، فهو فيلسوف أصيل له طابع العالم الاجتماعي الدقيق، جمع بين دقة المنهج وقوة البرهان ووضوح الأفكار وشمولية التناول. فمن خلال المقال الواحد تجده يحشد مجموعة من الأفكار والنظريات التي تلتقي كلها لإبراز مراده، رغم أنها في الأصل تنتمي لحقول معرفية مختلفة ومتباينة”.

وإذا كان ابن نبي يستفرغ جهده في البحث عن حلول لمشكلات الحضارة، فإنه في حقيقة الأمر مسكون بهاجس الفرد الإنساني، كيف السبيل إلى بنائه؟ ذلك أن الحضارة من وجهة نظر وظيفية: – كما يراها مالك – هي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدِّم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور، أو ذاك من أطوار نموه. فالمدرسة، والمعمل، والمستشفى، ونظام شبكة المواصلات، والأمن في جميع صوره عبر سائر تراب القطر، واحترام شخصية الفرد، تمثل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضِّر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه. فالحضارة إذن، هي جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره..

ومنطلق ابن نبي في ذلك هو أن كل تفكير في مشكلة الإنسان هو في النهاية تفكير في مشكلة الحضارة، ومشكلة الإنسان الأفروآسيوي هي في جوهرها مشكلة حضارة، يعني أن يحقق هذا الأفروآسيوي من طنجة إلى جاكرتا وضعا عاما متحررا من العوامل السلبية التي فرضها الاستعمار والقابلية للاستعمار على حياته في هذه المنطقة.

يرى الدكتور إبراهيم رضا أن ما يعطي التميز والأهمية لرؤية مالك بن نبي لقضايا الإنسان ومشكلات الحضارة يرجع عدة أسباب منها:

السبب الأول يتعلق بالإطار النظري المجرد الذي تناول من خلاله ابن نبي قضايا الإنسان؛ حيث يتعامل معه ضمن ما أسماه “مشكلات الحضارة”. ولهذا، فإن أهم ما يميز أفكار ابن نبي من هذه الناحية هو ما يملكه من أفكار حضارية رحيبة في النظر إلى مشكلات الإنسان عامة والإنسان المسلم خاصة.

السبب الثاني يتعلق بسعي مالك بن نبي لتحويل كثير من أفكار النهضة ومشاريع التغيير والإصلاح التي استفادها من قراءاته المختلفة إلى برامج وخطط فكرية عملية وقادرة على رفع مستوى فاعلية الإنسان وإنجازه الحضاري قصد تجاوز الواقع المتردي الذي شكلته نفسية “القابلية للاستعمار” في البلاد العربية الإسلامية.

السبب الثالث يتجلى في الدقة المنهجية العالية التي ميزت نظرة مالك بن نبي لقضايا الإنسان في علاقته بالمشكلات الحضارية التي اختارها مجالا لكتاباته كلها، حيث تعد اجتهاداته في هذا الصدد رائدة في تأسيس علم ما يمكن تسميته بـ “الفقه الحضاري للإنسان”.

ولد المفكر الجزائري مالك بن نبي سنة 1905م؛ أي بعد ما يزيد على سبعين سنة من استعمار بلاده، ويعد من أبرز مفكري العالم الإسلامي في القرن الماضي لكنه عانى كغيره من ذوي الرؤى الاستشرافية المستقبلية من التجاهل وعدم الاهتمام ويرجع ذلك إلى ذلك النوع من “الجهل المثقف” الذي يسعى ورثة الاستعمار إلى ترسيخه في عقول العامة من الناس، وقد أشار إلى ذلك حين قال في مذكراته: “إنني لا أكتب هذه المذكرات من أجل أولئك المثقفين، ولكن أكتبها للشعب عندما يستطيع قراءة تاريخه الصحيح، أي عندما تنقضي تلك الخرافات التي تعرض أحيانا أفلاما كاذبة، والتي سيكون مصيرها في صندوق المهملات مع مخلفات العهد الاستعماري”.

قضى مالك بن نبي الجزء الأهم من تكوينه العلمي والمعرفي في الغرب وبالخصوص في فرنسا الدولة التي استعمرت بلاده، “ومن واقع حياته في فرنسا ومعايشته الحضارة الأوروبية، وجد أن العصر الصناعي حلقة من مسيرة الحضارات التاريخية تطرح العلاقات الإنسانية في إطار اقتصادي (كمي) لا مكان للقيم الإنسانية في مقياسها المطلق، ولقد انعكس هذا الواقع النفسي والاقتصادي والاجتماعي على مسيرة الإنسانية منذ بداية عصر النهضة، وكانت ظاهرة الاستعمار مظهرا من مظاهر امتداده نحو الآخرين ليس فحسب في الإطار السياسي والعسكري، بل في الإطار الفكري والتربوي أيضا، ولكن الاستعمار رحل وترك مخلفاته الفكرية والتربوية، مما كان له الأثر في مزيد من التخلف في عالمنا الإسلامي”.

هذا التركيب الجينالوجي للتخلف الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية دفع مالك لتجاوز المقاربات التجزيئية في معالجة قضايا الفكر الإسلامي؛ فقد انطلق الرجل في أطروحته لمسيرة النهضة الإسلامية يشق طريقا جديدا وحديثا يتقصى المشكلات في جذورها وليس في مظاهرها ونتائجها..، ويتساءل مالك: ما هذه المشكلات؟ ويجيب بأنها تبدو الجهل هنا والفقر هناك، وفي مجال آخر النقص في الإمكانيات والثروات الطبيعية. وفي حصره لهذه المشكلات وسواها مما ينخر في مجتمعاتنا الإسلامية، وجد أنها تصب كلها في إطار واحد هو أنها مشكلة “حضارة” نحن خارجها ومشكلة “ثقافة” لم يتكامل إطارها في حياتنا اليومية، ونحن لذلك لا نفتقد الوسائل ولكن كيفية استخدام هذه الوسائل والاستفادة من الإمكانيات.

ومادامت المشكلة في هذا المستوى الحضاري، فلابد للفكر التغيري أن يكون في نفس المستوى من العمق، وليس من بديل لانبعاث الثقافة الإسلامية من جديد من الانخراط في هذا التحدي الحضاري والإنساني، وهو الأمر الذي أخذه مالك على عاتقه، فكل مطلع على كتابات هذا المفكر يشهد “أنها في تمثلها للثقافة الإسلامية والعالمية في أبعادها الإنسانية، قد قدمت تصورات وحلولا لم يصل إليها لا مفكرو اليسار الإسلامي الحركي ولا مثقفو التيار القومي أو الليبرالي أو الماركسي آنذاك، فهو فيلسوف أصيل له طابع العالم الاجتماعي الدقيق، جمع بين دقة المنهج وقوة البرهان ووضوح الأفكار وشمولية التناول. فمن خلال المقال الواحد تجده يحشد مجموعة من الأفكار والنظريات التي تلتقي كلها لإبراز مراده، رغم أنها في الأصل تنتمي لحقول معرفية مختلفة ومتباينة”.

وإذا كان ابن نبي يستفرغ جهده في البحث عن حلول لمشكلات الحضارة، فإنه في حقيقة الأمر مسكون بهاجس الفرد الإنساني، كيف السبيل إلى بنائه؟ ذلك أن الحضارة من وجهة نظر وظيفية: – كما يراها مالك – هي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدِّم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور، أو ذاك من أطوار نموه. فالمدرسة، والمعمل، والمستشفى، ونظام شبكة المواصلات، والأمن في جميع صوره عبر سائر تراب القطر، واحترام شخصية الفرد، تمثل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضِّر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه. فالحضارة إذن، هي جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره..

ومنطلق ابن نبي في ذلك هو أن كل تفكير في مشكلة الإنسان هو في النهاية تفكير في مشكلة الحضارة، ومشكلة الإنسان الأفروآسيوي هي في جوهرها مشكلة حضارة، يعني أن يحقق هذا الأفروآسيوي من طنجة إلى جاكرتا وضعا عاما متحررا من العوامل السلبية التي فرضها الاستعمار والقابلية للاستعمار على حياته في هذه المنطقة.

يرى الدكتور إبراهيم رضا أن ما يعطي التميز والأهمية لرؤية مالك بن نبي لقضايا الإنسان ومشكلات الحضارة يرجع عدة أسباب منها:

السبب الأول يتعلق بالإطار النظري المجرد الذي تناول من خلاله ابن نبي قضايا الإنسان؛ حيث يتعامل معه ضمن ما أسماه “مشكلات الحضارة”. ولهذا، فإن أهم ما يميز أفكار ابن نبي من هذه الناحية هو ما يملكه من أفكار حضارية رحيبة في النظر إلى مشكلات الإنسان عامة والإنسان المسلم خاصة.

السبب الثاني يتعلق بسعي مالك بن نبي لتحويل كثير من أفكار النهضة ومشاريع التغيير والإصلاح التي استفادها من قراءاته المختلفة إلى برامج وخطط فكرية عملية وقادرة على رفع مستوى فاعلية الإنسان وإنجازه الحضاري قصد تجاوز الواقع المتردي الذي شكلته نفسية “القابلية للاستعمار” في البلاد العربية الإسلامية.

السبب الثالث يتجلى في الدقة المنهجية العالية التي ميزت نظرة مالك بن نبي لقضايا الإنسان في علاقته بالمشكلات الحضارية التي اختارها مجالا لكتاباته كلها، حيث تعد اجتهاداته في هذا الصدد رائدة في تأسيس علم ما يمكن تسميته بـ “الفقه الحضاري للإنسان”.

لا يعسر على الدارس لنصوص ابن نبي استخلاص المكانة المركزية التي يتبوؤها الإنسان في مشروع البناء الحضاري، إذ لا يتأسس صرح الحضارة بدون بناء الإنسان، لذلك فـ “السعي لتشييد الإنسان تربويا وثقافيا، وبث “الفاعلية الحضارية” في كيانه يمثل اللبنة الأولى والرئيسة التي ينبني عليها المشروع الحضاري كله عند مالك بني؛ فبناء الإنسان في نظره أسبق من كل تشييد مادي في المشوار الحضاري “وهذا يتطلب في نظره دراسة أهم القوانين والسنن التي تتحكم في حركة الإنسان وفعاليته في التاريخ تأسيسا للحضارات، وبناء لها أو انحطاطا بها وفي هذا المجال نجده يدعو إلى استيعاب أكثر ما يمكن من نتائج العلوم الإنسانية والتطبيقية قصد توظيفها لصياغة القوانين والمعادلات التي يعتقد أنها توجه الحضارات وتتحكم في دورتها الخالدة من الميلاد إلى الأفول”.

لا يعسر على الدارس لنصوص ابن نبي استخلاص المكانة المركزية التي يتبوؤها الإنسان في مشروع البناء الحضاري، إذ لا يتأسس صرح الحضارة بدون بناء الإنسان، لذلك فـ “السعي لتشييد الإنسان تربويا وثقافيا، وبث “الفاعلية الحضارية” في كيانه يمثل اللبنة الأولى والرئيسة التي ينبني عليها المشروع الحضاري كله عند مالك بني؛ فبناء الإنسان في نظره أسبق من كل تشييد مادي في المشوار الحضاري “وهذا يتطلب في نظره دراسة أهم القوانين والسنن التي تتحكم في حركة الإنسان وفعاليته في التاريخ تأسيسا للحضارات، وبناء لها أو انحطاطا بها وفي هذا المجال نجده يدعو إلى استيعاب أكثر ما يمكن من نتائج العلوم الإنسانية والتطبيقية قصد توظيفها لصياغة القوانين والمعادلات التي يعتقد أنها توجه الحضارات وتتحكم في دورتها الخالدة من الميلاد إلى الأفول”.

عبد الله إدالكوس.

مؤسسة مؤمنون بلا حدود- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate