حداثة و ديمقراطية

يد السياسة في عجين النفس البشرية.. مشلولة أم مسؤولة؟(٣).

وإذ كانت الأخلاق تعتمد في عملية التمييز والمحاكمة على قطبي الخير والشر، فإن السياسة ترتكز في محاكمتها للأمور على ثنائية العدو والصديق، بحسب تعبير الألماني كارل شميث، ويمكن أن يتم التمييز بينهما بمعزل عن المؤثرات الأخلاقية. ومن ناحيته، أشار هوبز إلى معنى مشابه حين رأى أن الطبيعة البشرية في حالة صراع دائم لا يمكن حلّه إلا بتنازل أفراد المجتمع عن حقوقهم وحرياتهم لمصلحة سلطة تعمل على إيجاد عدو مشترك للمجتمع يقوّي الرابط بين أبنائه، ويمنح هذه الجماعة وعياً خاصاً بها من خلال وجود الآخر، ولا ينجو من هذا التوّجه حتى الدول الديموقراطية التي تلجأ في حال الحرب إلى تركيز الفضائل في جانبها والشرّ المطلق في عدوها.

واللافت أن دراسة بعنوان “التأثيرات الجينية على الأيديولوجيات السياسية” أجراها عدد من الباحثين، بقيادة بيتر حاتمي، عالم الأوبئة الوراثية في جامعة سيدني، ونُشرت في دورية Behavior Genetics عام 2014، اعتبرت أن المواقف السياسية تتطور اعتماداً على بيئة الفرد بنسبة 60% تقريباً وعلى جيناته بنسبة 40%. وهذا يعني أن توجهاً سياسياً معيناً أو كراهية عدو ما، يصبح أمراً وراثياً، إذ “نرث جزءاً من كيفية معالجتنا للمعلومات ورؤيتنا للعالم ونظرتنا للمخاطر والتهديدات التي تحيط بنا”.

أما في عصرنا الحالي، فقد منحت المنجزات التكنولوجية الفرد قوة سبق أن احتكرتها الحكومات طويلاً، فأًصبح الوصول إلى المعلومة يسيراً لا يكلف الكثير ومتاحاً بصورة أكبر، واتسع نطاق حريات الإنسان مع تراجع قدرة الحكومة على التعتيم والحجب، وفُتحت أمامه مجالات العمل السياسي العابر للحدود، الأمر الذي دفع الباحث الأميركي جيرمي ريفكن صاحب كتاب “الثورة الصناعية الثالثة” إلى القول بأن “الدولة الأمة لن تقوى على الصمود على الأقل في صيغتها الراهنة”.

وأفضى وصول جماعات جديدة إلى مجال التأثير في الرأي العام والقرار السياسي إلى بروز تيارات رأي خارج الأنساق التقليدية لتشكيل التوجهات، وظهر ما يسمى بالديموقراطية الرقمية (تصويت إلكتروني، حكومة إلكترونية..)، ما أوحى بتراجع غير قليل في قدرة الديموقراطية بشكلها التقليدي على تأدية متطلبات العصر الرقمي.

لحسن اسميك.

النهار العربي- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate