حداثة و ديمقراطية

يد السياسة في عجين النفس البشرية.. مشلولة أم مسؤولة؟(٢).

أما القطيعة النهائية التي جعلت السياسة بشرية بالمطلق، فكانت على يد منظري العقد الاجتماعي، الإنكليزيين توماس هوبز ولوك والفرنسي جان جاك روسو. وبحسب نظريات العقد الاجتماعي، فإن الذات البشرية وفطرتها هي النواة الأولى في إنتاج الظاهرة الاجتماعية بصفة عامة، والسياسية بصفة خاصة، وبُنيت ضغوط التعاقد الاجتماعي لدى كل مفكر على رأيه بالطبيعة البشرية الأصلية.

كل هذه الأفكار تمخضت عن مفهوم “الدولة” بشكله الحالي، هذا الكيان السياسي بطبيعته، والذي يحتكر القوة، والعنف المشروع، ويعمل بحسب “مصلحة عليا”، وله منطق خاص هو “منطق الدولة” الذي يسمح لـ”رجال الدولة” باتخاذ تدابير استثنائية لحماية هذا الكيان، حتى وإن تعارضت أحياناً مع مبادئ أخلاقية، فردية أو عامة، أو في حالات معينة مع أهداف الدولة نفسها وقوانينها.

لكن، في العصور الحديثة بدأت تظهر مجموعة من المحددات التي لا يمكن إغفالها في عملية صنع السياسة والتأثير المتبادل بين الميول البشرية وعمل الدول، فالمصالح العليا للدول والسيادة بمفهومها التقليدي باتت معرضة للتهديد في العالم بصورته الرقمية الراهنة. من هنا بدأت الحكومات تنتج أساليب جديدة تضمن لها الحفاظ على سيطرتها. في هذا السياق، يمكن الإشارة مثلاً إلى ما قاله المفكر الإيطالي أمبرتو إيكو عن الحكم بواسطة سياسة زرع الخوف واختراع الأعداء، إذ يذكر في دراسة له بعنوان “اختراع العدو” أن “وجود العدو مهم ليس لتحديد هويتنا فحسب؛ بل – أيضاً – ليوفر لنا عائقاً نقيس إزاءه قيمنا، ونثبت – أثناء محاولتنا تخطيه – قيمتنا”.

ولتبيان ذلك، لننظر مثلاً من حولنا، فإسرائيل المدعومة من القوة العظمى في العالم، والقادرة بترسانتها العسكرية على خوض حروب كبرى، تستغل وجود الأحزاب الراديكالية كـ”حماس” و”حزب الله” و”الجهاد الإسلامي” كي تبقي الشعب الإسرائيلي تحت تهديد الخطر المحدق، لما يحققه هذا التهديد من مكاسب سياسية على المستوى الداخلي. كما تستفيد من تحشيد الحلفاء ودعمهم على المستوى الخارجي، خاصة في صراعها غير المباشر مع إيران، والتي هي الأخرى تستنفر شعبها بحجة العداء مع إسرائيل وأميركا في العلن، بينما تتبادل معهما صفقات الأسلحة ورسائل التفاوض في الخفاء.

في المقابل، تثير إيران و”القاعدة” وأخواتها بالنسبة الى الغرب موجة الإسلاموفوبيا التي تروّج للخطر الذي يهدد الغرب كله على غرار حوادث سبتمبر (أيلول)، مع العلم أن ما تبقى من “القاعدة” مثلاً فئات قليلة وضعيفة تسكن الكهوف في أفغانستان، ولا تستطيع الوصول إلى كابول، فما بالك بالقدرة على توجيه ضربات موجعة لدول غربية. هذه الأمثلة وغيرها كثير قرائن واضحة على الأدوات التي تستخدمها السياسة في ضبط رادارات فعل الشعوب وفق ما تخطط له الحكومات وشركات السلاح، أو قد تستخدمها أحياناً لتبرير توسيع النفوذ السياسي والعسكري، على شاكلة الأسباب التي تعلنها واشنطن كي تفتح أمامها أبواب الشرق الأوسط من قبيل نشر الديموقراطية ومكافحة الإرهاب.

لحسن اسميك.

النهار العربي- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate