حداثة و ديمقراطية

تسييس: وجها السياسة ومعنيها(٦).

5

وما يمكن الخلوص إليه من هذه المناقشة هو الصلة الجوهرية بين السياسة والسلام: أن السلام لا يوجد إلا كنتاج السياسة، وأن غياب السياسة هو غياب للسلام، إن في صورة حرب متفجرة قليلاً أو كثيراً، أو في تطبيع أوضاع غير عادلة.

وظاهر أن تصور السلام يختلف حين يكون مدخلنا له هو فاعلية التسييس. ليس السلام من هذا المنطلق غياب الحرب، بل تشكّل المجتمع والدولة في صورة تُبقي الحلول السياسية ناجعة للمشكلات الاجتماعية. فإذا كان التسييس في وجه أساسي له عملاً من أجل السلام، فإن السلام بيئة السياسة بالمقابل، ومضمونه الإيجابي هو السياسة، وما تقتضيه من طرفين أو تعدد أطراف. ثم أن مجاورة فاعلية التسييس المضادة للحرب والمنتجة للسلام لفاعلية التسييس المضادة للطبائع والمحرِّرة يُكْسِب السلام ذاته شحنة ديناميكية وإبداعية. فرص السلام أكبر في مجتمع لا يكف قطاع منه عن مساءلة ما يجنح أن يتشكل في طبائع، مما في مجتمع منتج للطبائع المحمية من المساءلة. أي في مجتمع يتوازن ديناميكياً وعبر الاضطلاع بتوتراته، لا سكونياً وعبر إخماد كل توتر محتمل. لا يكتسب السلم بمنع تسييس الطبائع، بل بالحيلولة دون تحول المنازعة إلى حرب. التسييس ذاته هو الفاعلية المضادة للحرب.

ثنوية السياسة تعني كذلك أن السلم يُبدَع إبداعاً، بقدر ما إن الإبداع فعل سلم. يمكن فهم العبارة الأخيرة بمعنى أن السلم هو شرط أنسب للإبداع، ولكن كذلك بمعنى أن الإبداع يحمي السلم إذ يرفع من قيمة الحياة ويحول دون استرخاصها. قد يُعترض على أن الإبداع فعل سلم بالقول إن تكنولوجيات القتل من ثمار الإبداع (نوبل وإينشتاين مثالان شهيران)، وأن الإبداع يقترن بالذات السيدة التي تشعر بأن فيها قبساً إلهياً. والسيادة كما الألوهة تقتل. هذه نقطة مهمة بالفعل، وأن التفكير في إبداع غير سيادي، إبداع محرر وتحرري، هو في أمر اليوم بقدر ما أننا نَلِجُ عصراً من تدمير إطارنا البيئي على يد الذات السيدة والحضارة السيدة والآلهة السيدة. خلافاً للسيادة التي أخرجتها حنة آرنت من السياسة لأنها لا تعم الناس، فإن الحرية يمكن أن تعمهم، ولذلك فإنها يمكن أن تكون وجهة لإبداع غير مميت.

لكن الأكثر اعتراضاً على البدع من الإسلاميين، أي السلفيين، هم الأميل إلى العنف، والأشد تعصباً وميلاً إلى فرض ما يرونه بالقوة على الجميع، الأشد اعتراضاً كذلك على مشاعية السياسة والمبدأ الجمهوري.

أما القول إن السلام يُبدَع فالمراد منه يقارب ما يراد من الكلام على فن السياسة أو الفن السياسي، أي ما يتصل بمهارات وحنكة وحسن تصرف الفاعلين السياسيين بوصف ذلك أساسياً في المهنة السياسية. المقصود كذلك أيضاً أن السلام لا يُعرّف سلبياً بغياب الحرب فقط، وإنما بالحياة التي تعاش مفتوحة على الجديد ومضادة للسيطرة.

في الختام، يمكن لكل من الثورة العنيفة واللاعنف كعقيدة أن يكونا حدين للسياسة حيث للسياسة مجال، ولكنهما يغدوان ضمن مجال السياسة حين لا يكون لها مجال. تصير الثورة سياسة ممكنة للاعتبارات نفسها التي تجعل اللاعنف سياسة ممكنة، دعوة لعالم مغاير بوسائل قصوى، ثورية بطريقتين متقابلتين، مضادة لأوضاع مطبعة محمية بالعنف مرة، ومضادة لعنف تفلت من كل سيطرة. يمكن تعريف هذا العالم بقابلية مشكلاته للحلول السياسية. أي أن المسوغ الجوهري للثورة هو السياسة.

لياسين الحاج صالح.

الجمهورية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate