حداثة و ديمقراطية

تسييس: وجها السياسة ومعنيها(٥).

4

وتستجيب منازعة السياسة للطبائع لصفة الإنسان ككائن تاريخي، مُسائِل لنظمه، ولطبيعته بالذات، ولا يتحقق في طبيعة نهائية مستقرة. للإنسان تاريخ لأنه ليس له طبيعة أو له طبيعة متغيرة، ولو كانت له طبيعة قارة لما كان له تاريخ أكثر مما لشركائنا في المملكة الحيوانية. السياسة بهذا المعنى المنازع للطبائع هي طبيعة للإنسان، وهو ما يعطي عبارة «الإنسان حيوان سياسي» دلالة قوية، تتقابل من جهة مع حيوانات لا سياسية لها طبائع لا تتغير، وتتضمن من جهة ثانية فكرة أن الحرمان من السياسة هو حرمان من الإنسانية، أو أسر لها في شكل متحجر. السياسة تظهر بهذه الدلالة كعملية أنسنة مستمرة، ونحن نحقق إمكاناتنا الإنسانية بقدر ما نمارس فعل التسييس حيال ما ترى كطبائع مستقرة لنا ولاجتماعنا. بالمقابل تستجيب منازعة السياسة للحرب إلى تفضيل السلم كبيئة لحياة السياسة كوجه آخر لعملية الأنسنة وحماية الحياة. وما ينبني على ذلك هو أن السلام يتحصل بشيء سابق عليه هو السياسة، أو أنه نتاج محتمل للسياسة. الحرمان من السياسة هو، بالتالي، حرمان من السلام. هو الحرب. نعرف ذلك جيداً من التاريخ الأحدث لسورية. لقد عرفنا حربين كبيرتين خلال جيلين في صلة أكيدة بالحجر السياسي على السوريين في الحقبة الأسدية.

تعريف معنى السياسة بإنتاج السلام والتحرر، يقربها مما قالته حنة آرنت من أن الحرية هي معنى السياسة، وإن كان لا يرجعها إلى ذلك حصراً، ويصر على ثنويتها من حيث التكوين والمعنى والفاعلين. الحرية ذاتها تظهر هنا في صلة وثيقة بالإبداع والتحرر العقلي عبر منازعة ما يقدم نفسه كشيء لا نزاع فيه، طبيعي، أو «فطري»، بالتعبير الإسلامي. 

بجمعها بين إنتاج السلم والحرية- الإبداع، السياسة قيمة بحد ذاتها، إلى درجة تغري بالقول إن معنى السياسة هو فاعلية التسييس بوجهيها، أو إنه ليس للسياسة معنى خارج فاعليتها الذاتية.

ولعل لتصور السياسية كقيمة ومعنى لذاتها أهمية خاصة في مجتمعاتنا المعاصرة التي تحتاج إلى السياسة إن في مواجهة طبائع تحتمي بالدين أو يحتمي الدين بها، أو حرب محروسة بالدولة. ما نسميه الديمقراطية طوال نحو جيلين هو تعبير عن الحاجة لحياة سياسية، يمكن أن تكون ناجعة على حد سواء في ضبط دولة الحرب المطبعة لنفسها، كما في ضبط الطبائعية الدينية المحاربة. الديمقراطية من وجه آخر منهج «أمني»، بالنظر إلى أنها نظام الظهور السياسي العام، النظام الذي يتيح الظهور لمختلف أعماق المجتمع وتعبيراته، فتصير موضع إحاطة اجتماعية وتملك اجتماعي. ويبدو أن الأمننة المتصاعدة للسياسة تؤشر على أزمة في الديمقراطية، من أوجهها الأخرى محدودية فرص ظهور التعدد الجديد في مجتمعات الغرب الأكثر ديمقراطية، أي ما يتصل بالمهاجرين والملونين، وصعود تيارات طبائعية أو «جينوقراطية»، مثل اليمين الشعبوي القومي والتفوقيين البيض. وظاهر من تجربتنا أن «الأمن» بالمعنى الممارس في بلداننا منذ نحو نصف قرن، أي كجملة من الاحتياطات التقييدية التي تتخذها الدولة للحجر السياسي على محكوميها، لا يستطيع أن يكون سياسة آمنة، ولا أن يتيح لتعدد المجتمع ظهورات متساوية أو متقاربة. إنه شرط حرب كامنة، تنتظر الفرصة لتنفجر.

للحياة السياسية بالمقابل مفعول مؤمِّن بقدر ما هي تقوم على الظهور والعلانية، ثم مفعول مؤنسن على الأفراد ومنتج للاجتماعية بقدر ما هي تقوم على تحرر متسع للأفراد من البنى المطبعة وعلى بيئة سلم للمجتمع.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate