حداثة و ديمقراطية

تسييس: وجها السياسة ومعنيها(٤).

3 ولا يمضي التسييس كبث للمنازعة فيما هو مُطبّع حتماً إلى الثورة العنيفة إلا إذا دافع الطبائعيون عن امتيازاتهم بالعنف. حين تثار قضية تغير النظام الاقتصادي أو العلاقات العنصرية على نطاق محلي أو دولي، أو أوضاع النساء، أو نظام عنف وأبد كالحكم الأسدي، فهذا لا يفضي بحد ذاته إلى حرب إلا إذا أصر المستفيدون من تطبيع أوضاع قائمة تعود عليهم بالأرجحية أو الامتيازات على أن لا يتغير شيء. أي إلا إذا رفضوا السياسة. الحرب تأتي من قمع أصحاب الامتيازات غير العادلة في السلطة أو الثروة أو النفوذ أو المجد لمطالب المحرومين، وليس من طلب إدخال الأوضاع القائمة في السياسة والنقاش السياسي. الثورة السورية مثال ممتاز في هذا الشأن. حرك الثورة طلب للسياسة، لأن يكون للسوريين صوت في شؤون بلدهم، ولأن يجتمعوا ويحتجوا علناً وفي فضاءات عامة، ولأن يرفضوا أن يكون وضع امتيازي لأسرة ومحظييها لا سياسياً أو فوق سياسي. كان طلب السياسة تجسد مرتين خلال العشرين سنة الماضية. مرة على نطاق نخبوي في أيام «ربيع دمشق»، الذي تمثل أساساً في المنتديات، وهي تجمعات لعشرات أو مئات قليلة من الأشخاص في مساكن خاصة يتكلمون في السياسة، أي في قضايا السلطة والحقوق والحريات والعدالة. أجهض مطبعو احتكار السلطة ذلك المسعى بالقوة بعد أقل من عام واحد. والمرة الثانية على نطاق شعبي، حيث أخذ يجتمع مئات أو ألوف أو عشرات الألوف أو مئات الألوف في فضاءات عامة، يحتجون ويتكلمون في السياسة، بما فيها رأيهم فيمن يحكمون البلد. الثورة فاعلية تسييس، طلب للسياسة والحلول السياسية للمشكلات الاجتماعية، ووُجِهت بالحرب وليس بالسياسة. يمكن تصور استجابة للثورة بسياسة تبحث عن حل وسط أو تسوية تاريخية. كان ذلك يقتضي الاعتراف بشرعية المنازعة والسياسة التي تعترض على تطبيع الحكم الأسدي، والتفاوض على حلول وسط4، تعود بمكاسب حقيقية غير عكوسة على المعترضين، وتنقل المنازعات السورية إلى حيث تقبل على الدوام حلولاً سياسية. أي إلى حيث لا يكون استخدام العنف لحسم هذه الخلافات شرعياً. كان من شأن قبول المنازعة السياسية أن يحول دون الحرب. أما المواظبة على قمع المنازعة واحتكار العنف ووسائله فهو بالضبط ما أفضى إلى الحرب لأنه سحق مجال السياسة، بل وسحق مجال الاجتماع ذاته. لم يرد نظام الحرب الدائمة تسوية تاريخية وحلولاً وسطاً لأن فرصته في أن يربح بالسياسة أقل بكثير من فرصة الربح بالحرب.ثم إن الثورة السورية أخذت تأكل نفسها حين أخذ يحل طبائعيون في مواقع مسيطرة في مراتبها المسلحة، أعني من يتطلعون إلى نزع نظام الامتياز الأسدي لمصلحة نظام امتياز إسلامي سني، يبدو لهم التعبير الطبيعي عن مجتمعنا. الطبائعية الإسلامية تعمل على رفع امتيازات الإسلاميين إلى مرتبة المقدس غير المنازع، وإلى تجريم المنازعة فيه، وبالتالي تجريم السياسة. وهي نزاعة بفعل ذلك إلى أن تحمي نفسها بالحرب، فتحرم السياسة كتسوية وحل وسط كذلك.

ويظهر المثالان السوريان، الأسدي والإسلامي، أن نار الحرب الملتهبة ليست في تناقض مع جوهرانية الطبائع الثابتة، فكلاهما ضد السياسة ومنطقها وفاعليها وأدواتها. النظام يستنفر وضعاً مطبعاً لا يريد له أن يتغير، أعني امتيازه كشيء لا يجادل فيه ولا يسيس، مشفوعاً بحرب بالغة الوحشية ضد من أرادوا السياسة، وأرادوها بالسياسة أولاً. الإسلامية تنازع طبائعية النظام باسم طبائعيتها الخاصة، وحربه بحربها. يستخدم النظام الإيديولوجية الوطنية في تطبيع نفسه، وتخوين معارضيه لقتهلم عبر نزع الطبيعية عنهم، لكن الحرب هي منهج حكمه الأساسي. التسييس ينازع الإثنين، الحرب والوطنية التخوينية القاتلة. ويهيب الإسلاميون بطبيعة إسلامية ثابتة لمجتمعاتنا، مقدسة فوق ذلك وإلهية المصدر، بما يقضي الاعتراض عليهم إلى مجال الكفر المبيح للدم. فيعطون بذلك لأنفسهم شرعية القتل، ويطلبون الحكم لأنفسهم لحماية طبيعتنا الإسلامية المزعومة، أي الحرب المستمرة ضد الكفر. التسييس ينازع الدعويين: الطبيعة الإسلامية والحرب المستمرة.

لياسين الحاج صالح.

الجمهورية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate