حداثة و ديمقراطية

تحديات الشرعية والديمقراطية(٣).

الدولة العربية الحديثة

في مواجهة تحدي الغرب، توجَّبَ على الدول الإسلامية الشروع بالإصلاح تحت تهديد فقدان استقلالها، وهي حاجة لم تكون وليدة المجتمعات المحلية نفسها. تولت الدولة، وبشكل خاص الفئات المتأثرة بالغرب، أمر الإصلاح، فقدم غالبية الإصلاحيين العثمانيين من مكتب الترجمة. هذا الدافع للإصلاح أثَّرَ بدوره على طبيعته، حيث بدأ من الجيش، فكانت أول المعاهد والكليات تابعة للجيش. بدوره، احتاج الجيش الحديث اقتصاداً حديثاً، وعليه استهدف الإصلاح الاقتصادي تعزيز قدرات الدولة ومواردها بالوصول المباشر إلى رعاياها، متجاوزة الفئات الوسيطة التي توسطت بين الدولة ورعاياها وحازت شكلاً من السيادة على جماعاتها. أطلق الإصلاح عملية بناء وتوسيع قدرات الدولة بشكل هائل لتعزيز قدراتها على المواجهة الخارجية، وهذا لم يكن ممكناً في حالتنا إلا عبر استغلال المجتمع المحلي نفسه وفتحه أمامها بغياب القدرة على إطلاق عملية استعمارية لمناطق أخرى. أعادت عملية البناء هذه النظر في موقع الدولة وعلاقاتها بالمجتمع والجماعات المحلية والوسيطة ومنهم الفقهاء، وبالتالي قادت إلى إعادة ترتيب كاملة لمسائل السلطة والشرعية.تحت الضغط الغربي، انطلقت إصلاحات تشريعية تستهدف خلق بيئة قانونية حديثة، ومنها المساواة بين جميع المواطنين بمعزل عن انتماءاتهم. لكن هذا واجه تحديات متنوعة تمثلت بمعارضة فئات واسعة من داخل الدولة تعرضت للتهميش والتهديد بفقدان المكانة، مثل الإنكشاريين، وأيضا الجماعات الوسيطة8. تمثَّلَ التحدي الأبرز في سؤال الشرعية التي استُمدت من التقليد الديني القائم على الشريعة، التي تم التخلي عنها بشكل متزايد تحت ضغط الإصلاح وحصرها في قضايا الأحوال الشخصية. لكن من أين تستمد الدولة شرعيتها؟ التداخل بين التحديث القانوني ومركزية الشريعة في ضمان الشرعية ووعي الجماعة الإسلامية لنفسها (وشرائع الملل الأخرى لنفسها)، واستمرار العمل بالشريعة في مجالات مختلفة من خلال قوننتها، غَيّرَ من طبيعة العلاقة التي ربطتها بالناس9، كل هذا أدى إلى الازدواجية القانونية واضطرابها الذي ورثناه وظهر جلياً في قانون الحسبة وتطبيقه في حالة حديثة مثلاً (نصر حامد أبوزيد).

ترافق هذا مع سؤال الأمة والجماعة. فالمساواة المُقرة بين الرعايا لم تعنِ أو تترافق مع الاعتراف بهم كمواطنين لهم حقوق وواجبات ويربطهم تعاقدٌ بالدولة، أيضاً تحدت هذه المساواة مصادر الشرعية لدى النظام التقليدي القائم على تراتبية بين الجماعات بحسب هويتها وانتمائها، خاصة مع بقاء الشريعة (وما يقوم مقامها لدى الملل الأخرى) كقانون فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، وبذلك هددت آليات التضامن الداخلية لدى كل جماعة. لم يقتصر رفض الإصلاح على السنّة الذين رأوا فيه تهديداً لمكانتهم وتفوقهم، بل امتد لجماعات أخرى رأت أن مكانتها، الأفضل قياساً بغيرها، مهددة كذلك، أو شعرت بخطر يتهدد التضامن الداخلي بين أعضائها ويضعف من سلطة القائمين عليها تجاه أعضاء هذه الجماعة.

كيف يمكن جعل جماعات مختلفة يحكمها نظام دقيق للتراتب، قائمٌ على التقليد الديني والعرف، أمةً عثمانيةً يتساوى أفرادها فيما بينهم دون تحطيم هذا التقليد؟ كيف يمكن بناء الأمة العثمانية دون ما يترتب على هذا من سيادة شعبية، وبالتالي إبقاء المواطنين مجرد رعايا خاضعين للسلطان؟ إن بناء أمة مرهون بقدرة الدولة على احتكار الرأسمال الرمزي، وبالتالي السيادة والشرعية، وهو ما يدخلها في مواجهة غير مأمونة العواقب مع الشريعة والتقاليد الدينية الأخرى للجماعات الأهلية. بالمقابل، فقد كان للسلطان وحاشيته أسبابهما الكافية للخشية من الطبقة الوسطى الحديثة، الناشئة والمنخرطة في الإصلاح انطلاقاً من مقولات الثورة الفرنسية، فرغم أن مشروع هذه الطبقة هو تعزيز الدولة والهوية المرتبطة بها، لكن تحقيق هذا كان بدوره تهديداً للسلطان وحاشيته. تناقضٌ نراه أيضاً في المرحلة الليبرالية للدولة العربية، عندما يتناقض مشروع بناء الدولة مع مصلحة الوجهاء المسيطرين عليها.

كان نشوء مجال عام حديث قائم على السياسات الجماهيرية والسلطة الشعبية السبب في نشوء الإسلام السياسي بوصفه ظاهرة حديثة، تشكلت على أساس أسئلة فرضها الواقع الجديد، أسئلة تسعى لإيجاد أجوبتها في التراث. لكن التراث لن يسعف في تقديم هذه الاجابات، فهو لم يعرف مجالاً سياسياً عاماً ولا مشاركة شعبية. الأمر الذي فرض «إعادة اختراع» التراث، عبر قراءة معانٍ وإشكالات معاصرة فيه. لكن مركزية التراث تمثلت في أن الشرعية والسيادة لا تؤسَّسان في النسق السياسي نفسه، بل في النسق الديني.

لموريس عايق.

الجمهورية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate