حداثة و ديمقراطية

تسييس: وجها السياسة ومعانيها (٢).

وفي كل حال، يدخل التسييس اضطراباً في ما هو متصلب ومُسلّم به، ويُظهِر أن الطباع نتائج عمليات تطبيع وهيمنة، وأنها تنطوي على علاقات قوة وامتياز، هي ما يجري العمل على تحدّيها وتغييرها. لذلك يغلب أن يكون عمال التسييس هم المتضررون من الأوضاع المطبعة القائمة: نساء، عمال، سود و«ملونون»، غير مسلمين أو مسلمون عادلون، مناهضون للأسدية، وللصهيونية.

وليس المقصود بالحرب حصراً جولات العنف المتفجر بين طرفين أو عدة أطراف، بل كذلك الأوضاع النزاعية الحادة التي هي أوضاع حرب كامنة، قد تتفجر في ظروف مؤاتية. عاشت سورية أوضاع حرب كامنة طوال سنوات الحكم البعثي، ويعيشها لبنان منذ اتفاق الطائف، وهي الحال في مصر منذ انقلاب السيسي. بمقادير متفاوتة، الحرب الكامنة هي شرط الدول العربية كلها بعد فشل الربيع العربي في موجتيه. ويعني التسييس هنا السعي وراء حلول سياسية تحول دون الانفجار، وتعالج النزاعات الحادة التي قد تفضي إليها.   وإذ تتسع منطقة السياسة بمنازعة الطبائع والحرب، فتحوز بذلك تكويناً ثنوياً يطال معناها أيضاً: السلم في تقابل مع الحرب، والتغير والتحرر في تقابل مع الطبائع القارة. وبهذا التكوين المتمركز حول التسييس، لا تقبل السياسة الإرجاع إلى شيء واحد، سواء كان التمييز بين الصديق والعدو مثلما رأى كارل شميت1، أو الحرية على ما رأت حنة آرنت. قضية شميت، القومي الألماني المحافظ، تحل السياسة في الحرب، أي في تقابل استقطابي عدائي، يعكس أحوال الحرب الفعلية على ما عرفتها أوروبا بين الحربين. خارج هذه الأحوال، وعلى عكس شميت، يمكن تعريف السياسة بأنها تسييس الصراعات، أي أنها تتحرك في دائرة الخصومة حيث التسويات ممكنة، لا في دائرة العداوة والصداقة. السياسة وفقاً لهذا التصور جهد لتوسيع مراتب الأصدقاء وتحييد ما يمكن من الأعداء وحل المشكلات مع الأعداء دون عنف ما أمكن، أي دون الحرب. لا يلزم من أجل أن يكون ذلك صحيحاً غير مسلمتين: الصداقة خير من العداوة، والسلم خير من الحرب. الحرب «أبغض حلال» السياسة، وحتى حين تستعر الحرب وتكون السياسة قد فشلت وقتياً، فإن جهود وقف الحرب، أو ضبطها بقواعد ومحظورات هي أشكال لتدخل السياسة وفاعليتها. هذا يتوافق مع تصور كلاوسفيتز من أولوية السياسة على الحرب، ومن خضوع الحرب للسياسة وكونها ضرباً من الاستمرار لها. أولوية السياسة تعني أن الحرب استثناء، وأن أقل الحروب السيئة سوءاً هي أقصرها وأقلها كلفة. وتغير أولوية السياسة الحرب ذاتها، بأن تنقلها من نطاق الحرب المطلقة إلى حرب لها قوانين، ولا تمتنع على سلام يعقبها. قوانين الحرب التي يشكل انتهاكها جرائم حرب (تستهدف بخاصة جرحى أو أسرى من المحاربين) أو جرائم ضد الإنسانية (تستهدف أساساً المدنيين)، تقول إنه حتى حين نكون في حالة حرب، فليس كل شيء مسموح بها ضد العدو، وأن الالتزام بقوانين الحرب هذه يصون فرص السلم بعدها.

لياسين الحاج صالح.

الجمهورية-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate