تحديات الشرعية والديمقراطية(٢).
الشرعية والسيادة
في عمله الدولة المستحيلة2 حاجج وائل حلاق باستحالة «الدولة الإسلامية» لكون المفهوم متناقضاً. فحلاق يرى تناقضاً بين الدولة الحديثة ونظام الحكم الإسلامي فيما يتعلق بمفهوم السيادة. فالدولة الحديثة تملك السيادة، فيما تعود السيادة إلى الله في نظام الحكم الإسلامي.
سبق لشميت أن حاجج بأن مفهوم السيادة مفهوم لاهوتي مُعلمَن. فحيازة السيادة تعني حيازة إقرار القانون، وضمنه حق تحديد الحلال والحرام، المسموح والممنوع. فالسيادة تعكس سلطة موازية لسلطة الله في المجتمعات ما قبل الحديثة، فتصير الدولة صورة أرضية لله بحيازتها السيادة. تاريخ الدولة الحديثة هو تاريخ احتكارها للسيادة، احتكار العنف والتشريع وضبط الحياة اليومية. حيث تقر الدولة الحديثة القوانين وتعاقب مخالفيها، تنشئ المدارس والجامعات وتحدد ما يُدرس فيها، تحتكر حق ممارسة العنف وإنزال العقاب والقتل بصفه عنفاً شرعياً، تُلزم مواطنيها بدفع الأموال لها بوصفه حقاً (الضرائب)، وتملك حق سوق الشبان إلى الجيش وامتلاك سنوات عديدة من حيواتهم ودفعهم للموت من أجلها. الأهم، أنهم لا يفعلون هذا قسراً (وإن تحقق بالقسر والعنف) ولكن لاعتقادهم التام بأن هذا هو الصواب والواجب الذي عليهم تجاه الدولة. كل هذا يتم باسم سيادة الدولة وحقها في ممارسة هذه السيادة والقبول بهذه السيادة. بالمقابل –كما يشير حلاق- ينطلق نظام الحكم الإسلامي من موقف مغاير فيما يتعلق بالسيادة، التي تعود إلى الله وليس إلى الدولة أو السلطان. فالسلطان في الحكم الإسلامي مقيد بالشريعة، التي تمثل ضميراً أخلاقياً للأمة، ويتحدث باسمها الفقهاء. تُعرَّف الأمة باعتبارها الجماعة التي تلتزم وتمارس الشريعة، وليس بالإحالة إلى الدولة. بهذا، تكون الشرعية في الإسلام مؤسسة على الدين. يعكس التباين بين الدولة الحديثة ونظام الحكم الإسلامي حول موضوع السيادة تناقضاً جوهرياً، يتجلى لاحقاً في ترتيب علاقات الانتماء والجماعة وممارسة السلطة.
يفترض نظام الدولة الحديثة استقلال النسق السياسي عن النسق الديني، حيث تكون القواعد التي يخضع لها كل نسق مستقلة عن تلك التي يخضع لها النسق الآخر. لا يتعلّق هذا الاستقلال بالعلمانية ولا يستدعيها، فاستقلال النَسقَين لا يعني الفصل بينهما، طالما أنهما يتقاسمان الحضور في المجال العام، بينما تحصر العلمانيةُ الدينَ –بإعادة تعريفه- في المجال الخاص. وهكذا، يمكن للسياسي أن يبرر إخضاع النسق الديني للسياسي لمواجهة النزاعات التي يمكن أن تنشأ عن تباين التصورات الدينية في الدولة. بدورها، لا تتعارض فكرة الحكم المطلق القائم على الحق الإلهي مع هذا الاستقلال، فالملوك، بوصفهم الحاكمين في النسق السياسي، يملكون السلطة بفضل الحق الإلهي، بالمقابل تملك الكنيسة السلطة في النسق الديني. الاستقلال لا يعني الفصل أو الوصل، بل فقط تمايز المعايير والقواعد التي يخضع لها كل مجال.وقد سمح استقلال السياسي عن الديني بطرح سؤال الشرعية في المجال السياسي. فلم يطرح هوبز3 تحدياً لسيادة الدولة المطلقة (الحاكم)، لكن إسهامه تمثل في نقل مصدر سيادة الحاكم المطلق من الحق الإلهي إلى التعاقد بين أفراد، يتخلون عبر هذا التعاقد عن حرياتهم مقابل الأمن. عندها، تصبح شرعية الدولة شأناً طبيعياً ونتيجة لتعاقد الأفراد فيما بينهم، وتكف عن كونها نتيجة حق إلهي لا يمكن مساءلته. وهذا ما دفع الملك والكنيسة إلى رفض أفكار هوبز، لإدراكهم للتهديد الذي مثلته.كانت الخطوة التالية تقييد السلطة المطلقة، التي أصبحت تستمد شرعيتها من التعاقد، بحقوق طبيعية وأصلية للأفراد العقلانيين. عندها تتوقف الدولة عن كونها مطلقة السيادة، لتصير سيادتها مقيدة بهذه الحقوق4. الخطوة اللاحقة هي السيادة الشعبية مع نشوء السياسات الجماهيرية، حيث تستمد الدولة سلطتها وسيادتها من الشعب وتكون مؤسسة على العقد الاجتماعي، فتصير الدولة ملزَمة باحترام الحقوق الأصلية لهؤلاء المتعاقدين الحائزين على السيادة الحقيقية. سيادة الشعب فتحت الباب للديمقراطية، مثلما أن حقوق الأفراد الأصلية مكّنت من تقييد هذه السيادة.
سعت غالبية المجتمعات إلى مقاومة بناء سلطة متفردة ومتعالية كالدولة، وقد عرفت العديد منها نجاحاً بفضل اتباعها استراتيجيات منعت نشوء الدولة بوصفها سلطة وسطوة متمايزة عن المجتمع، أو على الأقل قيدت هذه السلطة بشدة. مثلاً، ساهم البوتتلاش (Potlatch)، وهو طقسٌ مُمارس في بعض مجتمعات السكان الأصليين في أميركا الشمالية ويقوم على تدمير الثروة وإحراقها عبر ممارسات تنافسية، في منع تراكم الثروة في أيدي مجموعات بعينها كان يمكن لها وبفضل هذه الثروات المتراكمة امتلاك قوة أكبر من الآخرين تمكّنها من تأسيس مصدر سلطة مستقل لها، يكون لاحقاً أساساً لنشوء دولة.
في السياق الإسلامي، تم النجاح بالحد من سلطة الدولة وتسلطها بفضل الفقهاء وتصورهم عن الشريعة. فشرعية نظام الحكم في الإسلام استندت على مركزية الشريعة باعتبارها ذات مصدر إلهي تحكم شؤون الحياة بعمومها وتشكل نظاماً أخلاقياً ملزماً للجماعة الإسلامية، يتولاه الفقهاء ويعنون بنقله وتعليمه بفضل حضورهم المباشر في مجتمعاتهم المحلية وصلتهم بها عبر المسجد والمدرسة، كما أن الدخول إلى جماعة الفقهاء لم يكن محصوراً في طبقة بل مفتوحاً للجميع، شرط الحصول على الشروط المؤهلة.
علينا أن ندرك أننا، حين نتحدث عن نظام الحكم في الإسلام تاريخياً، فإننا نُحيل إلى حكم لم يكن يتمتع بأية قدرات توازي قدرات الدولة الحديثة، فلا جيشَ نظامياً ولا تجنيد إلزامياً، ولا مدارس رسمية يدرس فيها الشعب، ولا إدارة للاقتصاد لتحقيق التنمية ورسم خطط اقتصادية. هذه الأمور كانت متروكة للجماعات الأهلية وتقاليدها، أحياناً بدعم ما من الدولة عبر رعايتها لبعض المدارس أو تأسيسها أو القيام ببعض الأعمال المدنية. حيث لم تتولَ الدولة مسؤولية العديد من الأمور التي نعتبرها بشكل طبيعي اليوم من وظائفها ومن أسس شرعيتها، مثل مسؤوليتها عن الوضع الاقتصادي والتعليمي والرعاية الاجتماعية والصحية. وبفضل اعتمادهم على مصادر مستقلة للثروة (الوقف)، تمكّنَ الفقهاء من القيام بعدد من هذه المهام، مثل تمويل المدارس والطلبة والجوامع ورعاية الفقراء ودعمهم وتأمين أعمال للعديد من الأشخاص يتقاضون عليها أجوراً وهلم.قامت علاقة الفقهاء بالسلطة على وظيفتين5، تبريرية ومعيارية، حيث تولى الفقهاء تبرير الحكم وإعطائه الشرعية، ومن ناحية أخرى مارسوا سلطة معيارية عبر فرض حدود ورقابة على هذه السلطة استناداً لكونهم الناطقين باسم الشرع. وهنا يمكن التمييز بين دورين للسلطة ميز الفقهاء بينهما، الحكم والمُلك. بالنسبة للحكم، فهو يتم من خلال الالتزام بالشرع والحكم بمقتضاه باعتباره مصدر الشرعية والسيادة، وهنا يكون الفقهاء رقباء عليه لدورهم كناطقين باسم الشرع الذي يشكل ضميراً أخلاقياً للجماعة من جهة وأيضاً بوصفه، أي الشرع، المحدد لهوية الجماعة نفسها بوصفها جماعة المؤمنين الملتزمين به والمستندين إليه. أما المُلك فيعود للسلطان، الذي قد يتولاه بالغلبة. يمارس الفقهاء دوراً رقابياً ومعيارياً كونهم ناطقين باسم الشريعة وضامنين للعمل بمقتضاها، ودوراً تبريرياً للسلطان بإضفاء الشرعية على حكمه وضمان قبوله، وذلك بحضّ الجماعة على الطاعة والصبر على الحاكم وعدم الخروج عنه بذريعة الفتنة. من هنا لا يثير السلطان ووصوله إلى الحكم، بالبيعة أو بالسيف، إشكالاً دينياً، فالشرعية لا تقوم داخل النسق السياسي نفسه. فلم يكن ممتنعاً على الفقهاء الوقوف إلى جانب صاحب الشوكة وتبرير وجوب طاعته لدرء الفتنة، طالما أن الشرعية تقع في مكان آخر تماماً وتتحدد عبر الالتزام بالشرع والعمل بمقتضاه. بلغة معاصرة، يمكن اعتبار السلطان في الحكم الإسلامي (الدولة) بمثابة السلطة التنفيذية، فيما مثل الفقهاء شكلاً من السلطة التشريعية التي تقيد التنفيذية وتنظم عمل السلطة القضائية حتى ولو خضعت الأخيرة للسلطة التنفيذية6. إضافة إلى تغول السلطة السياسية، واجه الفقهاء خطراً آخر تمثل في الخوارج، الذين سعوا إلى إحلال السياسي في الديني بشكل تام، محولين بذلك كل خلاف سياسي إلى خلاف ديني والعكس صحيح، بما يهدد بفتنة مستمرة.
إن إخضاع السياسي للديني فيما يتعلق بالشرعية لا يعني إحلاله في الديني، بل يحافظ السياسي على تمايزه. تمتد العلاقة بين السياسي والديني على طيف واسع يمكن رصد أربع إمكانيات داخله: الانفصال كما يُقدَّم في العلمانية، فيتم تعريف الديني بما يحصره في الخاص؛ الاستقلال الذي يعني أن كل نسق يخضع لقواعد مستقلة تنظمه وتنظم أسئلة الشرعية الخاصة بكل نسق دون أن تلغي تداخلهما الممكن؛ التمايز الذي يقر برد قواعد أحدهما للآخر دون أن يتماهيا، وهو ما نشهده في السياسة الشرعية، حيث يُخضع السياسي للديني، دون أن يلغي تمايز السياسي كوظيفة ودور مختلف؛ وفي المستوى الأخير تتم مماهاة السياسي والديني بشكل كلي، والذي نشهده لدى الشيعة والخوارج.
ما قام به الفقهاء ليس مجرد «تبرير» للسلطة، بل قدموا استراتيجية ناجحة في لجم السلطة والحد من نفوذها وإلزامها بمعايير تقع خارجها وتمنعها من التغول على مجتمعها. لكن هذه القيود اعتمدت نقل مناط الشرعية من النسق السياسي نفسه إلى خارجه، إلى الشريعة. فلم يعد النسق السياسي يتمتع باستقلال خاص به لجهة وجود قواعد ومعايير خاصة به تسمح له بطرح السؤال الشرعية من داخله، بل توجب عليه العودة إلى النسق الديني لتأمين هذه الشرعية. يمكن القول، بعبارة بيير بروديو، أن نجاح هذه الاستراتيجية عنى نجاح الفقهاء في احتكار الرأسمال الرمزي في مواجهة نظام الحكم.
من النتائج المترتبة على هذا النجاح أن مفهوم الأمة أصبح مقروناً بجماعة المؤمنين التي تعترف وتسلم بسيادة الشريعة وتعمل بمقتضاها في كل شؤون حياتها. لهذا، غاب مفهوم التمثيل، تمثيل الأمة أو جماعات ذات مصالح أمام الدولة التي تعترف بهذه التمثيلية وبدورها الرقابي من جهة والتشريعي التي يسعى إلى تلبية مصالح هذه الجماعات بمقتضى ما يطلبه هؤلاء الممثلون. فاختُزل التمثيل إلى علاقة مرتبطة بالشريعة والعمل بها، وهو ما يتولاه الفقهاء على كل حال. إضافةً إلى الفقهاء، كانت هناك الجماعات الأهلية من نقابات وأشراف وطرق صوفية، يتم التشاور معهم بخصوص ما قد يهمهم ويعنيهم دون التمتع بصفة رقابية وتشريعية.
جادل برتران بادي في الدولتان في أن الفرق بين الغرب والإسلام يكمن في استقلال النسق السياسي عن الديني في الغرب، والذي تمثل بخضوع كل منهما لقواعد خاصة تنظمه، الأمر الذي سمح لاحقاً بطرح أسئلة الشرعية والسيادة والتمثيل على المجال السياسي. بينما غاب استقلال النسق السياسي في الإسلام، الذي خضع للنسق الديني الذي يقوم عليه الفقهاء، الأمر الذي جعل من «فكرة الشرعية غير مستقرة في الثقافة الإسلامية بسبب غياب مقولتين مناوبتين لها في الشرعية الغربية: إنهما مقولتا السيادة والتمثيل»7. وهذا هو الثمن المدفوع نظير نجاح الفقهاء في الحد من سلطة الدولة وتقييدها تاريخياً.
تشير النقاشات المعاصرة إلى هذه الإشكالية فيما يتعلق بسؤال الديمقراطية إسلامياً، حيث يصرح العديد من الإسلاميين بقبولهم الديمقراطية إجرائياً ورفضها فلسفياً، وهم يعنون في هذا رفضهم لمقولة السيادة الشعبية التي لا سند لها في التراث الإسلامي. فهي تطرح تحدياً صريحاً على التقليد الإسلامي، حيث تعود السيادة لله وليس لأحد آخر، سيادة يعبر عنها الإلتزام بالعمل بمقتضى الشرع كأساس لسؤال الشرعية. إنَّ أقصى ما يستطيع الشرع تقديمه توجزه مقولة تقي الدين النبهاني «السيادة للشرع والسلطان للأمة»، أي إعادة إنتاج الموقف الكلاسيكي حيث يكون الله مناط السيادة فيما تستند الشرعية إلى الحكم بالشرع. لكن السلطان، الذي قبله الفقهاء مرة بحكم الغلبة، يكون هذه المرة مُمثِّلَ الشعب/الأمة الذي يصل بآلية ديمقراطية إجرائية مثل الانتخابات. لا يواجه الفقهاء مشكلة فيما يتعلق بالطريقة التي يظهر بها السلطان (السلطة التنفيذية)، سواء بالغلبة أو بالديمقراطية، طالما أن السلطة التشريعية المحددة للشرعية تخضع للشرع الذي يعين لنا الأمة وحدودها التي لا تطابق حدود الدولة. هكذا نجد أنفسنا أمام مفهوم عضوي للشعب والأمة يتعين بالتقليد ولا يتحدد بالسيادة والتمثيل، ويبقى خارجاً عن السياسة.
لموريس عايق.
الجمهورية- موقع حزب الحداثة.