حداثة و ديمقراطية

تحديات الشرعية والديمقراطية(١).

الديمقراطية بوصفها معضلة 

يطرح تقدم الأحزاب اليمينية الشعبوية من الهند إلى أوروبا، وظهور شخصيات سلطوية ذات شعبية واسعة في روسيا والمجر وتركيا، السؤال حول أزمة الديمقراطية التي تحيل إلى توتر سبق ورصده كارل شميت في عمله عن أزمة الديمقراطية البرلمانية1في الثلاثينيات. فقد أشار إلى تناقض ترزح تحته الديمقراطية البرلمانية، التناقض بين مبدأين أساسيين وهما المبدأ الديمقراطي والمبدأ الليبرالي.

ينطلق المبدأ الليبرالي من الأفراد وحريتهم بوصفها القاعدة الأساسية. هنا لدينا أفراد أولاً، يجتمعون فيما بينهم في تعاقد لتشكيل مجتمع وسلطة، تعاقد نجد شكله المثالي في التعاقدات في السوق. حيث يبدو السوق الشكل المثالي للمجتمع، ساحة عامة ومفتوحة للأفراد ليتعاقدوا فيما بينهم بخصوص أمور محددة. عقود تتضمن وعوداً عليهم الالتزام بها وواجبات من المنتظر أن يؤدوها، حيث تكون هذه العقود نتاج خيارات شخصية ومحددة بمضامينها، وربما مقيدة زمنياً، ويمكن اختيار العرض الأفضل من بين عروض كثيرة مُتاحة. البداية من الأفراد تضمن إعطاءهم حقوقاً أصلية سابقة على إدعاءات الجماعة أو الدولة.

بالمقابل، يقوم المبدأ الديمقراطي على التماهي بين الحاكم والمحكومين، بمعزل عن كيفية تعريف المحكومين لأنفسهم، سواء أكانت فكرتهم عن أنفسهم قومية أو طبقية أو دينية. يُحيل المبدأ الديمقراطي إلى حكم الجماعة، الأغلبية. فالديمقراطية لا تبدأ من أفراد، بل من الجماعة التي تحدد المقبول والشرعي والقانوني (الحلال) في مقابل المرفوض وغير الشرعي (الحرام)، وهذه الجماعة لا تُرَدُّ إلى مجرد اجتماع أفراد، بل إلى نقطة بداية أصيلة في ذاتها، تُعرف بواسطة التقاليد والقيم المشتركة.

اعتبر شميت التناقض بين المبدأين تناقضاً أساسياً لا يمكن حله، حيث يحيل كل مبدأ إلى نقطة بداية مغايرة للآخر وإلى ترتيب مغاير للحقوق والشرعية، وبالتالي إلى تصورين متناقضين للسياسة.

ما يعنينا أن الديمقراطية باعتبارها حكم الأغلبية تطرح تحدياً يتعلق بحقوق الأفراد الأصلية وحمايتها من «عسف» الأغلبية (والذي لن تراه الأغلبية بالضرورة عسفاً، بل حماية لنظامها الطبيعي –النظام العام-، وهو تعبير قانوني يشيع في أدبيات الوسطية الإسلامية مثل محمد عمارة وحزب الوسط المصري)، فوضع حدود على حكم الأغلبية تبدو في ذاتها فكرة مناهضة للديمقراطية. لهذا، لا يبدو ممكناً اشتقاق هذه الحدود من الديمقراطية نفسها، سواء انطلاقاً من «تصورات» ما تتعلق بحقوق أصلية للأفراد لا يحق للأغلبية أن تنتهكها، أو من تقسيم للسلطات يجعل من سلطة غير تمثيلية، مثل القضائية، موازية لسلطة تمثيلية ومنتخبة من الغالبية. لا يمكن تبرير هذه القيود باسم الديمقراطية، بل بالاستناد إلى مرجعية مختلفة، المبدأ الليبرالي، كما في حالة الحقوق الأصلية للأفراد. لهذا، لم يكن عبثاً أن غالبية الحركات الثورية التي تحدثت باسم الشعب كانت ذات مواقف متشككة ومعادية لفصل السلطات، باعتبارها تقييداً لسلطة الشعب.

التركيز على الأغلبية والتماهي بين الحاكم والمحكوم باعتباره أساس الديمقراطية يجعل التحدي الذي تثيره سياسات الهوية في الديمقراطيات المعاصرة مفهوماً. ليس بسبب مناهضة سياسات الهوية للديمقراطية، بل لكونها مناهضة للمبدأ الليبرالي القائم على الاعتراف بحقوق أصيلة للأفراد. إن جوهر السياسات الشعبوية (سياسات الهوية) هو وضع الشعب في مواجهة النخبة، وهذا الشعب متخيل يتم تعريفه بهويته التي ترسم حدود الشعب، ومن ينتمي إليه، ومن يقف خارجه.

لندفع المسألة خطوة للأمام، وعوضاً عن مقابلة الجماعة (المبدأ الديمقراطي) مع الفرد (المبدأ الليبرالي)، لنفكر بمجتمعات تتكون بدورها من جماعات عضوية مختلفة، طوائف أو اثنيات أو قبائل، وليست أمة مكونة من مواطنين أحرار. هنا يصبح تحدي الديمقراطية مضاعفاً، من ناحية مواجهة بين الجماعات العضوية نفسها، ومن ناحية أخرى بين الجماعة العضوية والأفراد المنضوين فيها. فقد تُفهم الديمقراطية بوصفها سيادة الجماعة الغالبة (الأكثرية)، كذلك يدفع التنافس بين الجماعات العضوية الأفرادَ إلى الانسحاق تحت ضغط جماعاتهم باعتبارها الشكل الوحيد للتعبير عنهم، فهم كأفراد لن يكون لهم نصيب في الدولة القائمة على أساس من جماعات عضوية. الوصول إلى الدولة/السلطة يبقى محصوراً في يد الجماعات، التي تؤمن لأعضائها منفذاً إلى السلطة والثروة انطلاقاً من انتمائهم لها، وفي مقابل ذلك تطلب منهم ولاءً تاماً.

تحمل الديمقراطية منذ البداية أسئلة مقلقة حول السلطة وممارستها، سواء سلطة الجماعة في مواجهة الفرد، أو علاقات السلطة بين الجماعات العضوية. الديمقراطية بشكلها المباشر –حكم الشعب- لا تقدم ضمانة للأفراد أو الجماعات الصغيرة في مواجهة استبداد الأغلبية. استبداد أغلبية لطالما انتهى إلى استبداد فرد يتماهى مع الشعب. إن منع تحول الديمقراطية إلى استبدادا الأغلبية يتطلب أمراً يتجاوز المبدأ الديمقراطي نفسه، وهو ما قدمه المبدأ الليبرالي في سياق الخبرة التاريخية للديمقراطيات الواقعية. بالمقابل، لم يكن تحقق الديمقراطية ممكناً دون فكرة سيادة الشعب، الأمة بوصفها صاحبة السيادة، وأن شرعية الحكم مستمدة من تمثيله لهذه الأمة. وهنا يمكن الحديث عن معضلة الديمقراطية المتمثلة بالجمع بين شروط الديمقراطية المتمثلة بسيادة الأمة والشرعية المستمدة من تمثيل هذه الأمة في ممارسة السيادة من جهة، وعدم تحول الأمة إلى «هوية» تستبد بالأفراد والجماعات الأصغر من جهة أخرى، بحيث تكون الأمة أمة سياسية وليست جماعة عضوية. وهذا يقودنا إلى أسئلة تخيّل الجماعة والسيادة والشرعية.

لموريس عايق.

الجمهورية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate