حداثة و ديمقراطية

شرعيةٌ متغلّبة وسيادةٌ مفتّتة(٢).

شرعية فعّالة بين إرادة السلطان ورجال الدولة

قبل ولوج الدولة في القرن التاسع عشر، كانت الأنظمة فيها آخذة نحو تغيّر ما، تغير قد لا يأخذنا نحو ابتداءه من نقطة ما، بل من شبكة معقدة من هنا وهناك. ولا يمكن في حقيقة الأمر حدّ أسباب تأخر هذا التغير بواحد أو اثنين، بل هنالك أسباب عامّة ليست موضوع النقاش في هذا الإطار، ولكن لا بد من ذكر أهمّ مصادرها، وهي وجود أكثر من مؤسسة [فِرَقٍ؟] تتنازع الحكم في الدولة العثمانية، المؤسسة الدينية İlmiyye والعسكرية Seyfiyye، مع بيروقراطية الدولة الحديثة السياسية الناشئة في القرن التاسع عشر، والتي تطورت عن الفرقة الثالثة؛ الكتّاب Kalemiyye، ويقابل ذلك عدم وعي كلٍّ من الفرقتين الأوليتين بمستجدات العصر.ومن هذا الإطار يمكن الحديث عن وجود النمط الكلاسيكي في تنازع مقادير السلطة في الإدارة العثمانية، والذي يظهر بشكل واضح في القرن السادس عشر، الذي يتوسط بين نشوء الطور الإمبراطوري من الدولة بدخول العثمانيين مناطق المياه الدافئة، وبين ولوج الدولة في القرن السابع عشر، وامتداده لأبواب القرن التاسع عشر، مع التحولات الأوروبية المتسارعة، واكتشاف نوع هائل من التأخر في الدولة. كذا وتدوين إحدى أشهر السفارات لـ«يرمي سكيز محمد تشلبي»، والتي لا تعد أكثر من جولة [سياحية؟] سريعة في مقتبل القرن الثامن عشر، لم تستمر إلا لعدة أشهر، ولم تكن كافية وفق كثيرٍ من الباحثين الأتراك لتعطي العثمانيين آنذاك نظرة قريبة عميقة عن أوروبا ومجريات الأمور فيها.4

عملية الكشف عن العيوب في الدولة في منتهى القرن الثامن عشر ومقتبل التاسع عشر، يمكن ملاحظتها في التقارير التي أمر بإجرائها السلطان سليم الثالث للكشف عن مواطن الضعف في الدولة، وهي مجموعة من المدونات أمر بها المقربين من رجال دولته؛ لتقديم معاينة عامّة تبين ما يمكن تداركه من موضوع تحديث الدولة على الأصعدة الدبلوماسية والعسكرية والإدارية والمالية، خاصّة بعد احتلال مصر والبنية المهزوزة للإنكشارية، وكذا توقيع معاهدات مع كلٍ من روسيا والنمسا وبريطانيا سببت قلقًا للداخل العثماني، لذلك يمكن اعتبار أن محاولة سليم الثالث للإصلاح كانت تنظيراً لعهد تنظيماتٍ قادم.يتّضح كذلك من علاقة السلطان بالوزراء5في القرن السادس عشر، بعد نيل العثمانيين الخلافة، أن السلطان كان مربوطًا بنوع من البيروقراطية لإسداء أي قرار يريده في الدولة6. صحيحٌ أن إعلان الحرب وعزل بعض الوزراء لأخطاء فاحشة، وغيرها من القرارات المصيرية التي تعتبر قرارات «سيادية»، كانت تُتخذ بأوامر ومراسيم مباشرة، هي سيادية لأنها من ملامح الدولة الأولى، كإعلان الحرب وتقرير ما يؤدي إلى الخيانة العظمى، وكانت بالفعل تحتاج إلى سرعة التحرك قفزًا عن بيروقراطية الدولة؛ ولكن جلّ قرارات الدولة، في ذاك القرن على وجه التحديد، لم تكن تُتخذ بهذا الشكل، بل كان السلطان بحاجة إلى نوع من موافقة مجلس الوزراء، وإجراء العديد من المشاورات مع وزرائه، في إدارة الدولة على وجه التحديد.مثلًا، حتى الآن لا يمكن الوصول إلى حكم جازم في معرفة سبب إعدام السلطان سليمان القانوني لوزيره المحبوب المقرّب، إبراهيم باشا، بل وحينما سأله وزيران في الدولة عن سبب قتله قام بعزلهما، وهنا يمكن أن نقرأ كيف كان هنا نوع من دائرة التصرّف المطلق للسلطان قبل العصر الحديث7. أي أنّه كان يقوم بممارسة سيادته الخاصة، حينما أراد ذلك، وهو أحد أهم أشكال النظام القديم الذي حاولت حركة التنظيمات مبتدأ القرن التاسع عشر التخلص منه. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار أن هذه التنظيمات في القرن التاسع عشر قد حدّت من سلطة السلطان، إذ إننا نلحظ العهد المتأخّر للتنظيمات، عهد عبد الحميد الثاني، زمن إقرار القانون الأساسي8، حيث نكشف عدمَ وجودِ ضغطٍ معينٍ من جهة شعبية أو ممثلة للشعب في إقراره، بحيث أن هذا القانون تم إقراره من خلال ما يتعارف عليه بالإرادة السنيّة من السلطان، وليس هو بيان ثوري أو إعلان جمهوري  İlân كما يُتصوّر.9

هذه السيادة كانت قد كُسرت بالفعل في عهد عثمان الثاني الذي تمّ اغتياله عام 1622 على يدّ قوات الانكشارية، وإن كان أخوه مراد الرابع قد جاء وعاقب هذه القوّات بتجبّر، تمامًا كما حصل في مقتبل القرن التاسع عشر، عندما جاء محمود الثاني بتجبّر على قتلة سليم الثالث. ولكن بعد قتل السلطان العثماني لأول مرّة على يد القوات الإنكشارية، نجد أن عدّاد الاجتراء على نهب الشرعية وكسر السيادة قد فُتح، فحصلت عملية خنق إبراهيم (1648) وقتل سليم الثالث (1808)، وكذلك المسألة العويصة المشتبه بها لقتل عبد العزيز (1876).

لمحمد عثمانلي.

الجمهورية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate