حداثة و ديمقراطية

شرعيةٌ متغلّبة وسيادةٌ مفتّتة(١).

تقديم

ستحاول هذه الورقة الكشف عن التغيُّر في السلطة ضمن المجال العثماني، من خلال طرح العلاقة بين مفهومي السيادة والشرعية في عصر التنوير العثماني، القرن التاسع عشر، كما ولن تغفل النظر في المقدمات الأساسية ذات الصلة، لكون هذا العصر لا ينفكُّ عضويًا عمّا سبقه من أزمنة الإمبراطورية الطويلة، وقد سبق هذا العصر كثيرٌ من المحاولات السابقة لتكوين تنوير ما، ولكن الجهود في الدولة لم تتكاتف حتى مطلع القرن التاسع عشر، مع التأكيد على أن هذه المحاولات لمجاراة عصر التنوير الأوروبي قبل هذا القرن، يمكن أن تُقرأ من لحظة استفاقة المسلمين على إثر مغلوبية العثمانيين بتوقيع معاهدة كارلوفيتسا.

لذلك، فإن هذه الورقة تبغي الكشف عن صدى هذين المصطلحين في مؤسسات الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر. وباعتبار أنّ السلطة قد يُعبّر عنها من خلال السيادة والشرعية، فإنّ قراءة هذين المصطلحين، تعني الوصول إلى نوع من فهم مسار هذه السلطة، والتي يُعبر عنها بالإرادة السنيّة «السلطانية» İrade-yi Seniyye.حاولت الدولة العثمانية الخروج من عباءة نظام الحكم القديم، متحركة نحو تأسيس النظام الجديد؛ Nizam-ı Cedid كما هو متعارف عليه في أدبيات التنظيمات العثمانية، والتي لا يَخفى تأثرها بالثورة الفرنسية التي تحرّكت لتحطيم ما يسمّى L’Ancien Régime، أي الثورة بتغيير الدولة السلطانية[fnيمكن مراجعة مدونات وجيه كوثراني للتفصيل في مثل هذا المفهوم على سبيل المثال؛ الفقيه والسلطان والذاكرة والتاريخ.]، التي تمثّل الحكم المونارشي؛ تلك الدولة المتمثلة بحاكمٍ أعلى، هو خليفةُ سائرِ المسلمين، ويليه في التراتبية، ولا يشترط في مصدرية الحكم «الشرعية»، من يُسمَّون بأهل الحلّ والعقد في أدبيات «السياسة الشرعية»، التي لا يمكن أن تمثّل فقهًا سياسيًا واضح المعالم؛ وأهل الحل والعقد هم أولئك المؤثّرون بقوتهم من الطبقة الدينية والاقتصادية العسكرية، ومن ثمّ تأتي بعدهم أجهزة ومؤسسات الدولة التنفيذية المختلفة.

نحو مركزية الدولة

كان رجال الأعيان الذين برزوا في القرن الثامن عشر صدى وبقايا الثورات الجلالية، التي تنوعت في سبب انبثاقها وإقلاقها النظام الحاكم في القرن السادس عشر ومبتدأ السابع عشر. وإذا كان الأعيان هم أقل حدّيةً من الجلالية، ولكن كلا الطرفين كانا يشكّلان تهديدًا لـ «مركزية الدولة» وسيادتها، الرمز الأساسي الذي سعى السلطان سليم الثالث، أبو التنظيمات في القرن التاسع عشر، لإعادة تشكيله، ولكنّ محاولاته فشلت بعملية اغتياله في نهاية المطاف.

عايشت هذه الدولة التغيرات الأوروبية المتسارعة في ثورتها العلمية والصناعية دونما توازٍ في التغير، أي أن الدولة العثمانية كانت تشهد تأخرًا ملحوظًا، ويمكن الحديث عن الأثر الواضح الممتد لتفجّر الثورة الفرنسية على العثمانيين، وحتى يكون القول محددًا، على النخب الإدارية العثمانية بشكل أبرز، وهو الأثر الذي امتدّ إلى مقتبل القرن العشرين، مع نهاية الدولة، ولم ينته بنشوء الجمهورية التركية، وريثة الإمبراطورية بكل عللها وحسناتها وثقافتها العامّة.

إنّ معاصرة الدولة العثمانية عهدين من الزمان جعلها تعيش في حالة مفارقة، عهدين كبيرين، وقد لا تكون هذه الدولة ذات طبيعة متناقضة في هذا الحال، بقدر ما أصبحت مظاهر الدولة منبثقة عن دواخل أكثر عمقًا، من العمامة إلى الطربوش؛ بين البزة العسكرية الحديثة وتلك الإنكشارية القروسطية؛ بين العمارة القديمة والباروك، الأدب «الفرنجي» الأوروبي والعثماني الإسلامي، التوجهات الوضعانية «الملحدة» taklidçiler والتقليدية muhafazakârlar، وغيرها من «التناقضات». ولكن هل نقول إنها تشكّلات طبيعية؟ وهل يجوز اعتبار الثقافة العثمانية مفصولة عن غيرها من الثقافات؟ هذه المظاهر أخفت وراءها قضايا معقدة تستحق البحث، كان أكثرها لفتًا للانتباه الحديثُ عن الإرادة السياسية المترددة ومكانتها في العهد العثماني.

لمحمد عثمانلي.

الجمهورية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate