حداثة و ديمقراطية

نقد جدل السيادة والحاكمية(٣).

إعادة التفكير في مفهوم الحاكمية

طُرح مفهوم «الحاكمية» في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر كما نراه عند أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، نقيضاً لفكرة السيادة الشعبية ولأي سيادة أرضية معرّفة بحق التشريع10. ثمّ إجماعٌ في أدبيات الإسلام السياسي على أن سلطة التشريع لا يمكن أن تُتاح لغير الله، وأن ذلك ليس مسألة ضمن مسائل، وإنما هو جوهر التمايز بين النموذجين العلماني (الجاهلي في تعبير أدبيات الإسلام السياسي) والإسلامي، كما أن تحكيم الشريعة الذي يمثل جوهر البرنامج السياسي للإسلاميين إنما ينبثق نظرياً من ذلك المفهوم للحاكمية. وبافتقاد مفهوم الحاكمية، ينتج التناقض النظري في الأنظمة الوضعية بين السيادة والشرعية، وبتوفره في النموذج الإسلامي ينحل التناقض النظري، وتقيد الشريعة عملياً سلطة الحاكم المطلقة، سواء كان هذا الحاكم ملكًا مطلقاً، كما يفضل الجناح السلفي، أو رئيساً منتخباً كما يفضل الجناح الوسطي11.

يحمل مفهوم الحاكمية تناقضه الكامن في داخله أيضاً. لقد أضحت السيادة مشكلة بنقلها من عالم المطلق إلى العالم السياسي، حيث نبعت التناقضات من تجسدها في كيان أرضي محدد، سواء التناقض بين السيادة والشرعية، أو بين السيادة مفهومة بوصفها حق الأمة أو حق الشعب وبين حقوق الإنسان وحقوق الفرد التي لا يفترض أن تخضع لقرار الأغلبية. في المقابل، ينبع تناقض آخر من تسامي المفهوم وإعادته إلى العالم السماوي، هو ما يمكن أن نسميه «معضلة التجسيد».

إذا كان الله هو صاحب الحق المطلق في التشريع، وإذا كان من المستحيل أن نتصلّ بالله، بل يعد ذلك عقيدة إسلامية أيضاً هي انقطاع الوحي، فكيف نعرف القانون الإلهي؟ إن الإجابة بسيطة: إن الله أخبرنا بشريعته عبر النص المقدس. ولكن ما لا يمكن أن يختلف عليه اثنان هو واقع أن النص المقدس لا يمكن أن يحصي كافة المشكلات، ثم إن تأويل هذا النص يحتاج هو ذاته إلى الاجتهاد؟ من هو صاحب الحق إذن في ممارسة الاجتهاد أو التأويل؟ يقول الإسلامي إن صاحب هذا الحق هو الفقيه الولي أو هيئة من الفقهاء أو هيئة من أهل الحل والعقد أو الإمام المستجمع لشروط الإمامة. نسأل: ومن يحدد الولي الفقيه أو من يحدد الفقهاء الذين يستجمعون شروط الاجتهاد؟ ومن يحدد أهل الحل والعقد؟ ومن يواجه خطأ الإمام أو أهل الحل والعقد ويقوّمه إذا أخطأ الاجتهادَ أو خرجَ عن الشريعة، فيقرر اجتهاداً مضاداً أو يقرر الشريعة التي يجب الرجوع إليها؟كما يلاحظ محمد أبو القاسم حاج حمد، فإن الحاكمية الإلهية في النموذج الإسلامي تجسدت من خلال «حاكمية الكتاب»، أي النص المقدس الذي يحتاج بشراً للاجتهاد في تأويله والاجتهاد خارجه، وهي من ثمّ حاكمية بشرية في واقعها الفعلي12. حالما يُمنح إنسان بعينه، أو هيئة من مجموعة من الأشخاص، حق الاجتهاد المنفرد دونما رقابة شعبية، فإننا في الواقع لا نكون إزاء حاكمية إلهية وإنما نحثّ السير تجاه تأسيس كنيسة إسلامية تملك حق التشريع باسم الله. ويخلط بعض الإسلاميين شعبياً بين دور القانونيين والفقهاء الدستوريين في الأنظمة الوضعية وبين الدور المتخيل للولي الفقيه أو الهيئة الفقهية المقترحة فوق الخيار الشعبي، فيرى أن دور الأخيرين لا يختلف عن دور الأوّلين في تفسير القانون وصياغته ونحو ذلك، غير أن الفارق الفعلي ينبع من السيادة الشعبية في إقرار أو نقض ما يقرره القانونيون في الأنظمة الديمقراطية، سواء عبر البرلمان أو عبر الاستفتاء الشعبي، وهي رقابة لا تتوقف، وتملك حق المراجعة بنقض ما سبق أن أبرمته.

في ضوء ذلك، تكون الحاكمية الإلهية أشبه بأفق يجتهد المسلمون في وعي وتحديد مقاصده، وفقاً لمعارفهم ومصالحهم وظروفهم التاريخية، ويسترشدون في ذلك بالنصوص المقدسة، أكثر مما هي قاعدة دستورية يتأسس من خلالها النظام القانوني كما استقبلها المنظرون الإسلاميون. تبقى الحاكمية هنا في موقعها في عالم المطلق، غير معزولة عن عالم النسبي الذي تؤثر فيه كأفق لها تسعى إليه، ودون أن تتجسد في هذا العالم النسبي تجسداً يهدد تلك الحاكمية الإلهية المطلقة في الحقيقة.

لمحمود هدهود.

الجمهورية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate