حداثة و ديمقراطية

نقد جدل السيادة والحاكمية(٢)

رغم أهمية الإسهام الوضعي الليبرالي، إلا أنه يبقى محدوداً بإبراز مأزق نظرية السيادة؛ مأزقها مع مبدأ الشرعية، الذي يمتد ليتمظهر في التناقض بين إطلاق السيادة الشعبية وبين حماية الحقوق الفردية التي قد تنتهكها السيادة الشعبية، والتناقض بين إطلاق السيادة القومية وبين الحاجة إلى تدخل المجتمع الدولي لحماية حقوق الإنسان. في المقابل، يعاني الإسهام الوضعي من مأزقه الخاص متمثلاً في صعوبة تحديد مصدر الشرعية القانونية مع نفي سيادة الدولة، فالسيادة ضرورة لإنهاء تسلسل المعايير.إذن، يرى كارل شميت، وعلى النقيض من كلسن، أن السيادة أمر واقع في أي نظام قانوني نظراً إلى أن أي نظام قانوني لا بد أن يتضمن تحديداً لمن يملك حق إعلان حالة الاستثناء أو حالة الطوارئ، بوصفها الحالة التي يجري فيها تعليق القانون. إن حق إعلان حالة الاستثناء هو خاصية السيادة الأساسية بوصف السيادة هي حق عدم الالتزام بالقانون. السيادة عند شميت هي أصل الدولة التي ولدت من رحم علمنة اللاهوت، أي نقل السيادة من الإله السماوي إلى سلطة الدولة الأرضية. ويتأسّس القانون عنده بفعل صدوره عن صاحب السيادة أو عن «آمريته». يرى شميت أن التخلي عن السيادة يعني التخلي عن الدولة والسياسة من خلال إنهاء الجدل السياسي المفترض في الديمقراطية عبر الفرض التعسفي للقيم الليبرالية (نقد الديمقراطية الليبرالية)، وإخضاع الدولة لإملاءات خارجية بحكم افتقادها سيادتها في تحديد أصدقائها وأعدائها (مفهوم السياسي)؛ أي أن شميت يقر بالتناقض الذي يثيره أعداء السيادة بين السيادة والشرعية، أو بين السياسة والقانون، لكنه يميل إلى الأولى عندما يميل الليبراليون إلى الأخيرة.

ينطلق كلسن وشميت كلاهما في محاولة حل معضلة الدوران بين السيادة والشرعية إلى محاولة اختزال أحد المبدئين في نظيره، وبينما يحتج كلسن بالأولوية النظرية للقانون، يحتج شميت بالأولوية التاريخية للسيادة؛ بينما يحتاج فهم الدوران بالضرورة إلى العودة إلى حالة التفاعل بين طرفيه. إن افتراض السيادة كسلطة مطلقة وأزلية وغير قابلة للانقسام هو افتراض لاهوتي يتعلق بعالم المطلق، وعندما جرى نقل تلك الفرضية من عالمها إلى عالم النسبي حيث تتجسد الدولة، فإن السلطة لم تبقَ مطلقة وأزلية وغير قابلة للانقسام لتحل في جسد كائن متخيل هو العاهل أو الشعب أو الأمة؛ وإنما تفتت السلطة وتنوعت أدواتها، وبقيت حتى في سطوتها السيادية، إذا أمكن تمركزها وتكثيفها في جهة محددة، محكومةً بقوانين حازت نصيبها من السلطة؛ السلطة التي أضحت مع غرامشي ثم بورديو وفوكو، مفهومة على نحو يتجاوز أدوات العنف أو نطاق الدولة. تنشأ السلطة السيادية في التاريخ بفعل تمفصل عرضي لمصادر القوة، لذلك فإنها تبقى سلطة محددة تاريخياً بفعل نشأتها ومحكومة بمصادر تشكلها التي أعطتها الشرعية والقوة كليهما.

على الرغم من أن بودان طرح الرؤية الأكثر إطلاقية لسلطة السيادة، إلا أنه يرى أن صاحب السيادة يقع فوق كل سلطة سوى سلطة الإله الذي هو سيّدٌ فوق كل السادة، وعندما يمارس صاحب السيادة سلطته في إصدار القوانين، فإنه يبقى محكوماً بالقانون الإلهي والقانون الطبيعي اللذين لا يملك أن يخرج عليهما. كذلك يرى هوبز أن السيّد هو شخصية مصطنعة لا طبيعية، أي أن سيادته تتشكل تاريخياً.راهن القانوني الألماني هيرمان هيلر، خلافاً لكلسن وشميت، على عملية التشكل تلك للسلطة، التي تحدث في الديمقراطية من أسفل إلى أعلى، وهو ما يطلق عليه هيلر «المبدأ الجدلي» للديمقراطية، بحيث تتمأسس السلطة من قبل المواطنين والجماعات، وتتوزع بين مؤسسات وأجهزة تتحدد السلطة بها. أما في الحكم الأوتوقراطي، فإن السلطة تتشكل من أعلى عبر إرادة الحاكم. ينتقد هيلر أطروحة كلسن عن الهوية بين الدولة والنظام القانوني، حيث أن الأنظمة الأوتوقراطية لا ينتفي فيها القانون بالضرورة، لكن السلطة تبقى متمركزة من أعلى بما ينفي الحكم الديمقراطي والبرلماني الذي استهدف كلسن حمايته.

إن السيادة إذن ينبغي أن تُفهَمَ بوصفها بنية اجتماعية تتشكل في التاريخ بفعل قوى متغيرة، وليست محض مفهوم نظري يمكن عزله كجوهر مستقل عن البنية الاجتماعية التي تؤطره. وعن تلك السيادة المبنية اجتماعياً، يصدر القانون ويشتق شرعيته، لا من مجرد حق سلطة شخصية ما في إصداره، ولكن السلطة تكتسب الشرعية الاجتماعية، والقوة الإلزامية أيضاً، عبر عملية بنائها نفسها وليس من خلال النظرية.

لمحمود هدهود.

الجمهورية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate