ثقافةحداثة و ديمقراطية

اتجاهات ما بعد الحداثة في مسرح الشباب.

◄تعتبر الممارسات الفنية والجمالية الرد الوحيد على فشل النظريات الأخلاقية والسياسية في تفسير معنى الحياة. (فريدريك نيتشه) يتحرّك الشباب المسرحي في العالم العربي في فضاء تياري الحداثة وما بعد الحداثة، فأعمالهم لم ينقطع وصلها مع بعض ما حملته الحداثة للمسرح بمختلف توجهاتها وتمظهراتها كرد فعل على المنهج النفسي أولاً، ثم السوسيولوجي الاجتماعي ثانياً والواقعي والإيديولوجي ثالثاً وذلك حسب فردريك جيمسون وجورج بالاندييه. وأيضاً بسبب وقوفها ضد الجمود ولتحطيمها القيود ومهاجمتها المحرّمات (شكري محمد عياد) وانشغالها بالهموم الإنسانية والوجودية عن الصراع الطبقي، وهذا ما أرهصت به أدبياتها الحداثية عندما تحدثت عن الإنسان الفرد المهزوم وهمومه وتمرّده الذي قد ينتهي بدماره (عياد، عالم المعرفة، ص56). اليوم، وفي هذا السياق يتطرق المسرحيون الشباب إلى موضوعات تخصهم وترتبط ببيئتهم وقضاياهم السياسية والثقافية والاقتصادية، برؤية مختلفة وضمن أنسقة ثقافية مغايرة أنتجها تيار ما بعد الحداثة، فيعلن بعض هؤلاء موقفاً نقدياً من الإيديولوجيا والحرب والسياقات الاجتماعية والسياسية، ويطرحون هذه القضايا من منظور ورؤية شبابية متجاوزة في المضمون باعتبار أنهم فقدوا الإيمان السابق بالمصير الجماعي المشترك. ولا يبدون مقتنعين بأنهم – أو أي أحد آخر – يمتلكون مقدرة تمكن من تغيير الوجود الإنساني، أو تعسف في اختيار معين للخلاص باسم وصية إلهية أو إرادة وطنية. ولم تعد العلاقة بين الفرد والجماعة محل اهتمام مسرحهم، وأصبحت المسألة ارتطاماً بين شعور يجسّد إمكانات إنسانية ومجتمع يسير في إيقاع لا شخصي قد يكون غريباً أو معادياً أو غير مكترث لتلك الطاقة الشعورية عند الفرد.   ·       تحوّلات النص المسرحي ما بعد الحداثي: اتسم المجتمع ما بعد الحداثي باستقلالية النظم الفرعية بعضها عن بعضها، وعدم تدامجها في كل جامع أو كل تراتبي واحد، فهم يعيشون هذا الانفصال أو التناقض، صفتي هذا المجتمع، الذي لا يوجد فيه نظام مرجعي مشترك مما يدفع كل نظام جزئي إلى أن يتمحور حسب- جورج بالاندييه في مؤلفه “الطريق إلى القرن الواحد والعشرين” حول آلية اشتغاله الذاتية، ولا يعود يسري بينهم من اتصال. وإزاء هذا التغير الفكري والفني سيقع التغيير الحتمي على بنية النص المسرحي، ويصبح – حسب روبرت ويلسون – “نصاً ما بعد حداثي خالياً من أي بناء سردي، ومفتقداً إلى أي نقطة يمكن اعتبارها بداية أو نهاية فعل أو رد فعل، أي أنها شيء من خطاب مكتوب أو شفوي” ويبرز ذلك على شكل السمات التالية: – رفض المسرحيين الشباب البنية السردية التقليدية عاملين على اكتشاف المفارقة والغموض، والطبيعة غير المحددة ومفتوحة النهاية للواقع. – رفضهم فكرة الشخصية المتكاملة من أجل التأكيد على الذات المتهدمة، والمجردة من الصفات الإنسانية. – بروز ملامح ما بعد الحداثة المتشظية المتجهة نحو الحد من العلاقات السلطوية، والزيادة في الخيارات الخاصة وفي منح الأولوية إلى التعددية، والازدراء بالقيم الكبرى وبالغائيات التي تنظم العلاقات في الأسرة والعمل والجيش وغيرها، ورفع راية التحرر من السلطة ونزعتها الذكورية المتمركزة بتبنيهم القضية النسوية، وقد برز ذلك بوضوح في نصوص بعض الشباب المسرحيين كما في نص مايا زبيب المخرجة اللبنانية “علبة الموسيقى” التي تكشف عن علاقة المرأة بالبيت وجزئياته وتفاصيلها الصغيرة المخبأة في الأدراج. وكذلك في نص يم مشهدي المؤلفة المسرحية السورية “باريس في الظل”، حيث تكشف عن حالة من ضياع الهوية وعدم الانتماء، هن ثلاث نساء تركن أوطانهن (بيروت وروسيا ودمشق) وهاجرن إلى باريس، بعد أن دمّرت أرواحهن في الأوطان، ويعشن الحنين إلى الوطن لكنهن يعجزن عن العودة. وتقوم يم: “النساء في مسرحيتي لديهن مشاكل شخصية تتقاطع مع مشاكل مجموعة من الشباب السوري. قدمت همّ الواقع الاقتصادي وحلم الهجرة والعجز عن إمكان فعل أي شيء، وهي مشكلة يعانيها الشباب” وكذلك نص المؤلفة المسرحية المصرية داليا بسيوني “سوليتير” (وهي لعبة من ألعاب الورق) وفيه كثفت داليا الكشف عن أحوال النساء من خلال الأجيال الثلاثة: الجدة، الأم، الفتاة أو الابنة. والأخيرة هي التي ترمز إلى حالة الرفض والتمرّد والتشظي. وتتكشف قضية نسوية بشكل أكثر وضوحاً في نص/ عرض الفارس الذهبي “ريح” حيث حاول توجيه الاهتمام إلى مسألة العنف الممارس تجاه المرأة. – انفتاح الفنون وتساكنها وكسر الحدود واستخدام التقنيات التقلدية والحديثة: اعتمد الشباب على التخلي كلية عن المركزية، وعمدوا إلى إقامة “ديمقراطية” كاملة بين أصناف التعبير والحواس والتفاعل الكامل بين لغة الصوت والصورة، والشكل والحرف والعبارة والمشهد والجمهور والتعاضد بين المختبرين الصناعي والنقدي. كما ظهرت مفاهيم مسرحية جديدة ما بعد حداثية مثل: ما بعد المفاهيم المطلقة، الدادائية الجديدة، الفن الفقير أو المتقشف (المتصحّر)، العرض أو فن الأداء، وتقنيات الفيديو آرت، والتشكيل، استخدم بعضها المسرحيون الشباب في مسرحهم، والاختصارية (الحد الأدنى).   ·       فن الأداء: يتردد هذا المفهوم (ما بعد حداثي) في أعمال الشباب المسرحيين، لا بل يتداول الشباب هذا المفهوم ويطبّقونه في أعمالهم كربيع مروة ومايا زبيب. ويظهر هذا المفهوم تعاون الفنون فيه تحت مسمى طقوس “التجليات التوليفية”، التي عرفت تحت اسم “البرفورمانس” وهو يرتبط بمفهوم أداء الفنون الذي ظهر في الستينيات وكان يعتمد بشكل عام على الحدث العابر المشهدي، وعلى تحالف شتى الفنون التوليفية، من مؤثرات صوتية، وضوئية، إلى السينوغرافي، والكوريغرافي، والرقص، والحركات الإيمائية، والديكورات المسرحية، والتصوير الجداري وإسقاطات الفيديو.. إلخ والحديثة: هناك مَن يؤمن بالأداء والتمثيل، فمثلاً مايا زبيب تقول: “أنا شخصياً لا أؤمن بأن أي شخص يمكنه “عدم التمثيل” حينما يكون بمواجهة جمهور”.   ·       التقنيات والتشكيل البصري: في أغلب العروض الشبابية مادة الدراسة اعتمدت التكنولوجيا بوجهيها التقليدي والحداثي كعنصر أساسي دخل مسرح الشباب، وهي – بالطبع – ليست حديثة، ففكرة استخدامها بدأت منذ زمن قديم، لكن المهم ليس الإسراف في التكنولوجيا، بقدر “فكرة التشكيل البصري” بحد ذاتها، والتي تدمغ تجارب معينة بطابع فريد، وقد مزج الشباب في مسرحهم فن الأداء مع التقنيات، كما تقول رغداء شعراني المسرحية السورية عن عرضها “شوكولا” 2007.   ·       أنماط ثقافية ما بعد حداثية شكلت أسلوب صياغة: تناسب ثقافة ما بعد الحداثة الأنماط الجديدة، حيث نجد طمس الحدود بين الفن والحياة اليومية ومحوها، وإزالة التسلسل الهرمي بين الراقي والجماهيري في الثقافة الدارجة وتفضيل الأسلوب الانتقائي المشوش، وتمازج الثغرات، والمحاكاة الساخرة، والمعارضة، الاستهلاك وسرعة استعمال الموضة الدقيق للوقت والتهكم والسخرية، والهزل والمزاح، والاحتفال بالمظهر الخارجي (بالثقافة التي لا عمق لها)، وانحدار الأصالة، العبقرية للمنتج الفني والأدّعاء بأن الفن لا يسعه إلا أن يكون مجرد تكرار.   ·       الهوية.. أشكالها رؤية ما بعد حداثية تقابل الحداثية: لم يعد البحث عن هوية للمسرح هماً، بل صار المسرح نفسه وسيلة فنية إبداعية لطرح الأسئلة عن الهوية، هوية الأشخاص أنفسهم، هوية الشباب أي الجيل الحالي، تقول يم مشهدي: هذه هي الهوية وليست القول بالانتماء إلى القومية أو الطائفة، البحث عن هوية بحاجة إلى هامش من الحرية. وتعبر نصوص الشباب عن هواجسهم وعن معاناتهم وقلقهم اليومي. ويلاحظ أن هؤلاء الشباب لم يستسلموا نهائياً لمقولات ما بعد الحداثية فيما يتعلق بالفردانية، بل يسعون باستمرار للتكتّل حول فكرة أو مشروع ما، وهذا ما دفع ببعضهم إلى تشكيل فرق خاصة بهم تحمل عناوين ذات دلالات “فرقة وصال النسائية الإسلامية الكويتية، وفرقة أنثروبولوجيا الكويتية، وعن أهدافها تقول إيما “اتجاهنا إنساني”، وجمعية شمس اللبنانية، وزقاق المسرحية والجمعية الثقافية اللبنانية”.   ·       الخاتمة: خلاصة القول إن هؤلاء الشباب مارسوا المسرح وأنتجوه وظلوا – حسب وصف أوسكار وايلد نفسه – دائماً على علاقة رمزية مع زمنهم، وتبينا كيف يعيش هؤلاء الشباب الاختبارات بما هو متغير ومشترك مع المسرح الحداثي وما بعد الحداثي، من دون أن ينقطعوا عن قضاياهم العامة والخاصة، لكن هؤلاء تحرّروا من تصلّب القوانين فطرحوا موقفهم ورؤيتهم النقدية في ظل مفردات بصرية وتقنية متجاوزة للتقليدي ومساكنة للفنون السبعة، ومنخرطة في المفاهيم الفنية والمسرحية ما بعد الحداثية تلكم التي ذكرنا سابقاً، من دون أن يعني ذلك أنهم لم يوظفوها ضمن السياق الثقافي والاجتماعي والمعرفي لبيتهم. ولكن ذلك لا يقودنا إلى الاستنتاج أن هذه التفاعلات والتأثرات بسمات تيار ما بعد الحداثة وأساليبه ومفاهيمه قد مكّنت الشباب المسرحي اليوم من وضع تقاليده وأسسه المسرحية، لأن القضية تحتاج إلى تراكم التجربة، الطالعة من بيئتها وإيقاعها ومناخاتها الفكرية والفنية. لذلك نعتقد أن التيار ما بعد الحداثي يعني هؤلاء الشباب وذلك لأن له مفاهيم أخرى بوسعهم الانتقاء منها ما يتوافق مع رؤيتهم الفكرية والفنية. مع ملاحظة قابلية هؤلاء الشباب لهضم وتمثل القيم “الأنساق” الحضارية “العولمية” بالمقارنة مع ثقافات أخرى، مضافاً إليها هذه القابلية للتلقي أو الاكتساب – إن جاز التعبير – وفهم الأدوات والوسائط التي بموجبها تصل هذه المفردة “ثقافة العولمة” للمجتمع – حسب محمد الرميحي – سواء بفعل التأثير “الضرورة” أو بفضل التفاعل الثقافي والفكري “تلاقح الثقافات”. إضافة إلى ذلك، نجد أن من طبيعة هذه الممارسة أن ينتج عنها – حسب ديفيد هارفي في كتابه “حالة ما بعد الحداثة” – عملية التكيف النفسي التي تتولد بفعل الممارسة والاحتكاك المتواصل، وبشكل متكرر ويومي لن يعاني هؤلاء الشباب من الغربة على الصعيد المفاهيمي بالنسبة لتعاطيه مع نتاجات الثقافة ما بعد الحداثية خاصة في زمن العولمة بوجه الخصوص، وذلك لأنها ستعتبرها المفصل المهم الذي ستتشك منه ثقافته بما تحتويه من خيارات الفعل أو الإحجام، الموافقة أو الرفض، القبول أو الممانعة (الرميحي). “يطمح الشباب اليوم – حسب إدوارد سعيد – إلى أن يكونوا مواطنين عالميين”.

لوطفاء حمادي.

البلاغ- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate